علي سعدون
كل عملٍ أدبيّ هو موقفٌ من الحياة، يتحدّد من خلاله ما تؤمن به رؤيتُنا الشخصية من أفكارٍ وتطلعاتٍ وقراءاتٍ.. الخ، وفي ضوئها سيظهر ميلُنا إلى نموذجٍ إبداعي بعينه دون سواه.. بالطبع، سيأتي الموقفُ بعد الفراغ من الجماليات بوصفها واحدة من بديهيات وأساسيات العمل الادبي، بل إن العمل الأدبي الخالي من الصبغة الجمالية والتعبيرية الفذة، لن يشكل قيمة ثقافية في نهاية المطاف بطبيعة الحال.، وسيؤدي العمل الأدبي عندئذ، إلى إنتاج إنشائي عادي لا يحتمل البلاغة ولا يحتمل الحفريات النادرة التي يتوخاها القارئ من العمل المكتوب.
رواية البناء المتقن :
عن رواية «قلعة طاهر» لـ «حسن السلمان» وهي رواية بناء متقن، سنتحدث في هذا البحث، متلمّسين أولاً مستويات بنائها ومعمار اشتغالها وفق الاجراء النقدي الذي يعنى بنصيّة الرواية أولاً، بوصفها الوعاء الذي ستصب فيه مضامين السرد وثيمات الحكاية وطرائق اداء الشخصيات الرئيسة والثانوية، الامر الذي يشي إبتداءً بمقدرة «حسن السلمان» على توليف شخصيات روايته بتناغم ممتاز، قلَّ نظيره في الرواية العراقية التي غالبا ما تزجّ بحزمة متعددة من الشخصيات التي لا يربط بينها سوى الخط الدرامي العام للحكاية، وسينفرط عقدها كلما توغلنا في التفاصيل الداخلية للمتون الروائية، وبالتالي يمكننا ان نقول ان تناغم الشخصيات في رواية قلعة طاهر، ساعد كثيرا على نضوج الحبكة وانسيابية تصاعد الاحداث فيها وصولا الى اهمية ذلك التناغم في صنع الحياة الكاملة في هذه الرواية. انها رواية حياة تكتمل عناصرُ بنائها في الزمان والمكان والشخوص والحكاية..
فيما يمكننا عدّ التغاير في إستدعاء نوعاً من الشعرية في السرد، سمة ثانية من السمات الرئيسة التي تميز هذه الرواية عمّا سواها. أقول بالتغاير، وأعني أن حسن السلمان لم يتوخَ الشعرية من خلال التداعي والمنولوج الداخلي للشخصيات – وهو ما يحدث عادة في إضفاء الشعرية على الخطاب الروائي – ، إنما عمل على ذلك من خلال بناء المشهدية المتكاملة للحدث الذي يموج تحت تأثير التوصيف الشعري، وهو أداء تستثمره اللّغة دون أن تحيد عن مراميها السردية، ودون الدخول في موجبات البلاغة الفضفاضة. شعرية هذه الرواية، هي شعرية مشهد، لا شعرية مونولوج..
الايحاء بسينمائية الرواية ! :
ان الجزم بسينمائية هذه الرواية، سيكون متعجلا لما للأثنين من فروقات تقنية وبنائية. فالسينما تُعنى بتقديم صورة مرئية يدخل عليها الكلام فيكمّل الصورة أو يضيف عليها، بينما في تقانات الرواية (وفق نظرية علم الكلام) هي السرد كله، سرد ٌيعمل على تحويل هذه الاجزاء كلها الى المتخيل الذي سيشكل الصورة في نهاية المطاف. وبالتالي، يمكننا القول ان هذه الرواية استعارت الأداء السينمائي للوصول إلى بنية سردية مختزلة تغاير السائد وفضلا عن ذلك كله، ثمة يوتوبيا (شكلية) تدفع برواية «قلعة طاهر» الى الخروج عن النمط التقليدي في شكل الرواية الذي عادة ما نقسّمه الى (واقعي، سحري، فنتازي، اسطوري، رمزي .. الخ) .. ولن اغامر كثيرا، إذا ما قلت إن الرواية الواقعية هذه، رواية «قلعة طاهر» لحسن السلمان، تمثل – في واحدة من مفارقاتها الشكلية – العودة الى الرومانسية بطريقة مضمرة وغير مكشوفة، وسيلمس القارئ عن كثب، إلتقاطة المبنى الإشكالي الذي سيتمثل بتأرجحها بين اشتغالين (واقعي / رومانسي) وهي مفارقة شكلية تسبغ على الرواية تعددية شكلية تضيف اليها ولا تأخذ منها .
قلعة طاهر والموقف من الحياة !! :
إن فكرة الرواية، وموضوعتها الأم تكاد تكون محايدة وهي نقلية بالضرورة، حتى وإن كانت متخيلة بعتبات التناغم مع الواقع، لكنها ستجري على لسان كاتب الرواية في «قلعة طاهر» بإنحيازات مختلفة ومتعددة. انها رواية تحتضن التاريخ الشخصي للعائلة الإقطاعية بطريقة محببة، طريقة تتشابه مع اداء السيرة الذاتية التي تتبع حياة عائلة بعينها وصولا الى ما آلت اليه عبر تاريخ يتجاوز زمنه ما يزيد على نصف قرن من الزمان، على الرغم من انها لم تكتفِ بهذه الحدود، انما عبرتها الى تحولات زمنية تستثمر في تاريخ لاحق من الحياة العراقية – نهاية الرواية على سبيل المثال – ستشير الى التحولات الزمنية الهائلة التي تسبغ على متن الرواية تصاعدا لافتا ومهماً للغاية.
عن براءة الاقطاع من الاستبداد !
في هذه الرواية، رواية «قلعة طاهر» ثمة مضمرات تتمثّل في نوع العلاقات الإنسانية التي كانت تتحكّم بعلاقة الشيوخ الإقطاعيين وهم الطبقة (البورجوازية) في الرواية، بجمهور الفلاحين وهم طبقة (البروليتاريا) بمعنى من المعاني، الطبقة التي تقف قبالة الطبقة الأكثر إستحواذاً على الحكاية.. يحدث ذلك بطريقة متعالية تنحاز كثيراً لمنظومة الإقطاع وتوليها عناية كبيرة، ولا تمر سوى بهوامش مبتسرة وشحيحة للغاية على هؤلاء المنسيين، والمغيبين في رواية تخترق البعد الثقافي لتاريخهم الإجتماعي والسياسي، الذي يظهر من خلال الإحالات التي يفهمها القارئ – على انها تخص طبقة الفلاحين – دون أن يعتمدها الروائي كمتنٍ من متون الرواية.
قلعة الايروتيك!
يفصح خطاب رواية «قلعة طاهر» عن ثيمة مستترة تبدو وكأنها صيغت بعناية بالغة، وهي الوجه الأيروتيكي في الرواية. إذ لم تنشأ العلاقات الجنسية في هذه الرواية، إلاّ لتقول إن الريفيين يتعاطون الجنس بطريقة طبيعية للغاية، وهم غالبا ما يمارسونه بضغط من الغريزة وحدها، لا أكثر من ذلك، اعني ان حسن السلمان، ينجح في التعاطي مع مشاهد الايروتيك غير الملفقة، وقد جاءت في سياق انساني يتناغم مع طبيعة الحياة الريفية التي تريد للجنس أن يكون مضمراً ومهملاً في الحياة.
ان كل بطلات «حسن السلمان» في هذه الرواية، هن من العاشقات اللّواتي تتقدم المحبةُ لديهن على الشهوة، بما في ذلك «حورية» التي تبدو سعيدة وهي تتمرَّغ في أحضان «طوفان» المتغطرس، فيستعملها بطريقة غير إنسانية بحضور زوجها المخنّث / الضعيف/ الذي يتفاعل مع العبودية بطريقة عجيبة : ينتصف الليل، ويصل شيخ طوفان وراهي الى صريفة حورية . يدخل الشيخ الى الصريفة فينسحب زوجها عطية مثل كلب مبلل، ذيله بين رجليه، الى الصريفة الاخرى، مخلياً المكان للمحفوظ، وهو لا يكف عن الترحيب به. تستقبله حورية بالأحضان .. تقبّل يديه وجبينه وتشمّ ثيابه، وهي على أربعة وعشرين حباية» (الرواية ص65) .. هذا المشهد الذي يلفت الانتباه إلى براعة «حسن السلمان» في تغيير وظيفة المشهد القاسي في تعاطي العبودية المتصاعدة إلى أعلى مراحلها، سيشير أيضاً إلى أن حورية لم تكن مغتصبة، إنما كانت المحبةُ تتقدم خضوعها الى شهوات طوفان، وإن العبودية والغطرسة المتبادلة بين (عطية/ طوفان)، ستشكّل طرفاً آخر من المعادلة خارج نطاق المشهدية الأيروتيكية، التي يتصاعد بخورها في الصريفة المجاورة بعد أن يلتحم جسدا حورية وطوفان وفق إرساليات مشهد يدفع بالمخيلة الى الشهوة المزدانة بالمحبة، بعيداً عن الاستحواذ الغاشم الذي يغلّف الصورة الخارجية لتلك العلاقة الغريبة. الامر ذاته سينطبق على زهرة وهي تتلمّس طريقها لمعرفة الجسد الذكوري لأول مرة عن طريق ملامستها وحميميتها مع الناطور ماهود. والذي ينتهي بواحدة من المنعطفات الكبرى في تلك الرواية الباهرة، حيث هروب ماهود ومقتل زهرة.
التاريخ وسرد الرواية :
الرواية التي تستدعي التاريخ لتفكك مقصدياته، ستتعالق مع الحياة المعاصرة شئنا أم لم نشأ. وهو ديدنها من خلال المقارنة، أو من خلال الترابط الموضوعي وفق بديهيات (الماضي / الحاضر) .. فمالذي إستشرفته هذه الحكاية، من الحياة العراقية التي تتوزع على نحو قاسٍ بين الأرياف النائية وبين المدن الباردة؟.. الان وبعد أكثر من ستين عاماً على مضي تلك الحقبة التي أسّست لما تلاها في المجتمع العراقي، سنجد أن نسقاً ثقافياً وقبلياً متوارثاً، كان قد انغرز في بنية المجتمع وشكّلَ ما يمكن أن نسمّيه بؤرة حكاية ذلك المجتمع الذي غابت فيه النزعات القبلية، أو وهنت لسنوات طويلة، وباتت في قاع أنماط التفكير المجتمعي، بعد انبثاق (الجمهوريات) غير البريئة تماما من الخراب. لكنها – اي العصبيات القبلية – سرعان ما برزت الى السطح، محدثةً تدهوراً بالغاً في بنية المجتمع الذي بات مهيّئاً تماماً للترييف على حساب المدنيات الناشئة والرجراجة .
عند الانتهاء من هذه الرواية، سينبثق سؤالٌ مفاده : كيف سيكون شكل ومضمون التاريخ المنقول عبر الرواية، إذا ما أردنا له أن يكون فناًّ عظيماً نقرأ فيه مضمرات الماضي ونستشرف القادم من خلاله.. مالذي سيحصل إذا ما توجّه الروائي بكل إجراءاته الفنية الى نقليات التاريخ الجامدة.، إلى الفوتوغراف العام الذي يجسّد ملامح وسمات تلك الفترة الغامضة. مالذي سيحصل إذا ما أراد الروائي أن ينقله لنا جامداً وساكناً ومجرداً من الموقف الثقافي والمعرفي والفكري من الاحداث..، اعني الموقف الشخصي من تلك الحياة الغابرة ؟! .. وكيف سيتسنى لنا – نحن قرّاء الروايات – أن نفهم إستعادة التاريخ في الرواية، التي نزعم على الدوام أنها إعادة قراءةٍ وحفريات في المكان والزمان والشخصيات، وصولا إلى الهوية التاريخية التي تحاصر حاضرنا ومستقبلنا!!