أحزاب أربعة بربع..!

دوّنت المفوضية “المستقلة” للانتخابات أسماء أكثر من 200 حزب عزمت وتوكلت للاشتراك بالجولة الجديدة من الانتخابات البرلمانية المقبلة، المقرر إجراؤها منتصف شهر آيار المقبل. طفح الأحزاب هذا يعكس حقيقة ما يجري من نشاطات وممارسات على مسرح أحداث ما يعرف بعراق ما بعد “التغيير”؛ حيث يتم عبر ذلك، إدامة الأوضاع والاصطفافات الكفيلة بضمان عملية إعادة تدوير ممثلي الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد أمور الغنيمة الأزلية بعد الفتح الديمقراطي المبين. من يجهد نفسه قليلاً في التقصي عن حقيقة الغالبية الساحقة منها، تنظيماً ومنهاجاً وكوادراً وإرثاً كفاحياً وتمثيلاً اجتماعيا وقيمياً، سيعجز عن إيجاد أدنى صلة تربطها والعلل والمعايير التي تقف خلف وجود الأحزاب السياسية بالمعنى الحديث للكلمة. غير القليل من الضاجين اليوم على سطح الوغف المتطاير من شتى المنابر الدعائية والإعلامية، يشغلون المتلقين بهموم من نسيج قانون سانت ليغو المعدل وغيره من أشكال الأنظمة الانتخابية المعتمدة لدى المجتمعات والدول الأخرى، ويوهمونهم بإمكانية حصول التغيير المنشود عبر هذه العطابات، التي لا يمكن أن تحدث تغييراً في نتائج الانتخابات وفي أفضل حالاتها يتجاوز الواحد بالمئة. لقد برهنت تجربة عقد ونصف العقد من “التغيير” على أن التحول صوب الديمقراطية لا يمكن أن يتحقق بآليات الديمقراطية وحدها، حيث مسخت هذه الآليات الى ما يشبه الكائن الخرافي الضخم (أكثر من 200 حزب) يعيد إنتاج الأوضاع السقيمة نفسها التي تنتهي بنا الى ما نحن عليه من خمود وعجز وركود، التحول الفعلي يحتاج الى إرادة وقرار شجاع ومسؤول، ينتصر للديمقراطية كمنظومة عمل وقيم متكاملة ولا تتجزأ، وهذا ما لم يحصل حتى هذه اللحظة، حيث تتواطأ جميع السلطات بما فيها الذيل الرابع، على إدامة حفلات تنكرية لا تنتج سوى الخيبات والمزيد من الهلوسات لمشهد يزداد غرائبية وعتمة.
لقد تمكنت أفسد وأفشل طبقة سياسية في تاريخ العراق الحديث، من بسط هيمنتها المباشرة وغير المباشرة على المفاصل الحيوية للدولة والمجتمع وغالبية المؤسسات والهيئات المهمة في عراق ما بعد زوال النظام المباد، لذلك نجدها تتهادى جميعها على طريق خدمة وصيانة هذا النظام السياسي التلفيقي من دون الإحساس بأدنى تأنيب للعقل والضمير. كل هذا العدد الهائل من “الأحزاب” لا يمكن أن يتستر على واقع الاصطفافات الفعلية على أساس “الهويات القاتلة” المهيمنة على مقاليد أمور العملية السياسية بعد استئصال المشرط الخارجي للنظام المباد، حيث سيتم عبرها شفط الأصوات الى حيث ورثة إقطاعيات ما قبل الدولة الحديثة. لذلك ومن أجل أن لا نضطر لتسليم أمر تحديد مصائرنا الى هذه القوى والكتل التي تعرفنا على مواهبها وغاياتها الفعلية طوال 15 عاماً من إدارتها للبلاد؛ علينا الالتفات الى طبيعة هذه اللعبة والمنظومة التي لا تنتج سوى هذه البضائع والفزعات السياسية النافقة. هذه الأعداد الهائلة من الأحزاب والحوانيت السياسية، لا علاقة لها بالتعددية والحريات التي تؤشر على استقرار الأمم وازدهارها، بل هي تعكس واقع التشرذم الطائفي والإثني والقبلي الذي كرسته قوى فشلت فشلاً ذريعاً زمن المعارضة، وازدادت فشلاً في مهمة بناء الدولة الحديثة وما يرافقها من مؤسسات وعلى رأسها الأحزاب السياسية المبنية على أساس الهوية الوطنية والحضارية. نحتاج الى قرارات وتشريعات شجاعة تنتشلنا من القسمة العاثرة التي دوّنها دعبل الخزاعي ذات غروب:
إني لأفتح عيني حين افتحها/ على كثير ولكن لا أرى أحدا.
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة