مايكل والتزر
أستاذ فخري في معهد الدراسات المتقدمة. وأحد مؤلفاته كتاب «سياسة خارجية من أجل اليسار».
تعالوا بنا نتأمل في كارثة السياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترمب. في حين أنفق الرئيس سنته الأولى في المنصب في تبادل الإهانات مع دكتاتور كوريا الشمالية، مَضَى النظام هناك قُـدُما بثبات في تنفيذ برنامجه النووي، واقتربت الولايات المتحدة بشكل مضطرد من حرب لا أحد يريدها.
في سوريا في إبريل/نيسان الماضي، هاجمت قوات الولايات المتحدة منشآت حكومية بغارة قصف جوي لمرة واحدة، والتي لم تحقق أي شيء بسبب غياب المتابعة السياسية أو الدبلوماسية. وعلى نحو مماثل، بعد تسليح الميليشيات الكردية لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بالنيابة عنها، وقفت الولايات المتحدة جانبا تراقب تركيا وهي تهاجم نفس النساء والرجال الذين سلحتهم.
ونتيجة لتخلي إدارة ترمب عن القيود التي كانت مفروضة في عهد أوباما على استخدام القوة الجوية، أسفر «انتصار» التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في الموصل في العراق عن سقوط آلاف الضحايا من المدنيين وخَلَّف كومة من الركام والأنقاض. وكما حدث في فيتنام، كان على أميركا أن تدمر المدينة لكي تنقذها.
في الوقت نفسه، نشرت الإدارة آلاف الجنود الأميركيين في أفغانستان، ولكن دون أن تكلف نفسها عناء وضع استراتيجية سياسية لكسر الجمود هناك.
وفي عهد ترمب، أصبحت الولايات المتحدة أيضا مؤيدا مخلصا للأنظمة الاستبدادية، من المملكة العربية السعودية إلى الفلبين. وفي أوروبا، يسير زعماء اليمين المتطرف في بولندا والمجر بكل حماس على خُطى ترمب ــ إن لم يسبقوه بخطوة أو اثنتين.
وفي إسرائيل تحالفت الولايات المتحدة فعليا مع حركة المستوطنين والحكومة اليمينية المتطرفة، وبالتالي رفضت الحلم الصهيوني القديم المتمثل في شعار «إسرائيل الصغيرة». والواقع أن نائب الرئيس مايك بنس رفض في رحلته الأخيرة إلى إسرائيل مجرد الحديث مع زعيم حزب العمل المعارض.
في ضوء كل الحقائق، نستطيع أن نقول إن الولايات المتحدة أقصت بعض من أقرب حلفائها، وأضعفت حلف شمال الأطلسي، وأصبحت تشكل حضورا شديد التعصب وكارها للأجانب على الساحة العالمية. كيف إذن ينبغي لليبراليين واليساريين أن يستجيبوا لكل هذا؟
نحن على اليسار نعارض تقريبا كل شيء قاله ترمب أو فعله. ومع ذلك، لم يقدم أي منا بديلا معقولا أو متماسكا. فنحن إما لم نتحدث عن السياسة الخارجية على الإطلاق، أو اعترضنا ببساطة على أي استخدام للقوة في الخارج، في حين انجرفنا نحو نسختنا الخاصة من العزلة.
لكن العزلة ليست طريقة أخرى لعدم انتهاج أي سياسة خارجية. فقد أدار سناتور ولاية فيرمونت بيرني ساندرز حملة انتخابية قوية وفعّالة في عام 2016 في معالجته للسياسة الداخلية. ولكن حتى برغم أنه كان يخوض حملته لكي يصبح رئيسا للهيمنة العالمية، فإنه لم يذكر أي شيء تقريبا عن السياسة الدولية.
الواقع أن اليسار يحتاج في المقام الأول إلى التفكير بجدية في مسألة استخدام القوة، والتي تشكل القضية المركزية في حوارات السياسة الخارجية. فمن الصواب استخدام القوة في الدفاع عن النفس أو الدفاع عن آخرين. ويتحول استخدام القوة إلى خطأ واضح عندما نقاتل من أجل تغيير النظام، أو في دعم حكومات استبدادية، أو ضد حركات وطنية نجحت بالفعل في كسب المعركة من أجل «القلوب والعقول».
يتعلق سؤال جوهري آخر بكيفية استخدام القوة. لكنه سؤال تسهل الإجابة عليه: فالقوة يجب أن تستخدم في ظل قيود مصممة لتقليص الخسائر بين صفوف المدنيين إلى أدنى حد. مثل هذه الأسئلة ليست صعبة، ولكن عندما نتعامل معها بجدية فإنها قد تقودنا إلى مواقف سياسية معقدة.
على سبيل المثال، كانت الولايات المتحدة مخطئة عندما قررت غزو العراق في عام 2003، ولكنها كانت محقة في الانضمام إلى القتال ضد داعش، وإنقاذ الأزيديين من مذبحة. وكانت محقة عندما هاجمت واحتلت مدينة الموصل، ولكنها كانت على خطأ بَيِّن عندما حولت المدينة إلى كومة من تراب.
كانت الولايات المتحدة مخطئة أيضا عندما طالبت بالإطاحة بنظام الرئيس السوري بَشّار الأسد، لأن القوى المعارضة للأسد كانت تفتقر إلى الدعم الشعبي الضروري، ولم تكن الولايات المتحدة مستعدة لإعانتهم على الفوز بذلك الدعم. من ناحية أخرى، كانت مساعدة الأكراد السوريين فكرة طيبة، لأنهم مقاتلون ناجحون ويتمتعون بدعم قوي من شعبهم؛ وربما ما كانوا ليتمكنوا من البقاء في ظل خلافة داعش.
في مكان آخر، كان من الصواب أن تعمل الولايات المتحدة على تعزيز دفاعات كوريا الجنوبية واليابان، ولكن من الواضح أنها أخطأت عندما هددت بشن حرب نووية. فالأسلحة النووية من غير الممكن أن تخدم أي غرض إنساني يمكن تصوره. لكن هذا لا ينطبق على كل الأسلحة، ويتعين على اليسار أن يتصالح مع هذه الحقيقة. فلا يمكننا أن ندعو إلى السلام عندما يعيش الناس في مختلف أنحاء العالَم في خوف من القتل الجماعي لأنهم ينتمون إلى أقلية عِرقية أو دينية بعينها، أو يؤمنون بإيديولوجية «خاطئة»، أو يعيشون في دول ضعيفة معرضة للخطر إلى جانب قوى رجعية انتقامية.
في أوج الحرب الباردة، عارض العديد من اليساريين منظمة حلف شمال الأطلسي. وفي السنوات الأخيرة، كان بعض الساسة من أمثال جيريمي كوربين، قبل أن يصبح زعيما لحزب العمال في المملكة المتحدة، يدعمون سحب بلدانهم من الحلف، لأن الحلف ملتزم على وجه التحديد باستخدام القوة كوسيلة للدفاع المتبادل.
كان هذا الالتزام موجها في الأصل ضد الاتحاد السوفييتي، والآن أصبح موجها نحو روسيا فلاديمير بوتن. وينبغي لليساريين الأميركيين أن يتعاملوا مع هذا الوضع من خلال طرح السؤال على اليساريين في بولندا، أو ليتوانيا، أو أوكرانيا، حيث المخاطر جسيمة. وأنا شخصيا أود أن أفترض أن العديد من اليساريين في أوروبا الشرقية يناصرون حلف شمال الأطلسي، وكنت لأرغب في أن تكون أميركا مناصره له أيضا. فليس من الواجب علينا أن نفعل دوما ما يريد أصدقاؤنا أن نفعل، ولكن ينبغي لنا أن ننصت إليهم دوما.
ترى عقيدة قديمة في الإيديولوجية اليسارية أن الدول الرأسمالية المهيمنة مثل الولايات المتحدة من غير الممكن أن تعمل كما ينبغي لها في العالَم. ولكن هذا غير صحيح. فقد لعبت الولايات المتحدة دورا رائدا في إلحاق الهزيمة باثنين من أكثر الأنظمة وحشية في تاريخ العالَم، ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي.
الواقع أن الولايات المتحدة قادرة على القيام بأفعال جيدة على الصعيد العالمي، وهي تفعل ذلك أحيانا. ويتعين على اليساريين الأميركيين أن يطالبوا بلادهم بالتصرف على نحو جيد، وينبغي لنا أن نعترض عندما تفشل في القيام بذلك أو تتقاعس عنه. ولكن من غير الممكن أن ننجح في المطالبة بأي شيء أو معارضة أي شيء قبل أن نتمكن من صياغة رؤية متماسكة للسياسية الدولية.