من البحوث التي قدمت في مهرجان المربد بنسخته (32)
جميل الشبيبي
يتميز منجز الشاعر كاظم الحجاج الشعري ببساطة لغته وميله إلى بناء عالم ساخر تحكم نهاياته مفارقات تضفي على القصيدة نكهة وتميّزا خاصّين به ، وفي قصائده القصيرة تتضح مسحة السخرية والمفارقات الضاجة بالتنازع فيما بينها لتكون الغلبة في نهاية الأمر للجمال والطرافة ورشاقة العبارة التي تجسد إحساسا غامرا برهافة الحس وعمق النظر إلى الحياة في تناقضاتها وحركتها نحو الجديد ، مرددا أناشيده التي تمجد البحث عن الصفاء والحكمة وصراع الأنا مع العالم والحياة في أجواء الحرب التي كانت ثيمة أساسية في منجزه الشعري باعتبارها عقبة وصدمة كبرى لسعادة الإنسان وتطلعه نحو الجمال والحب والعدالة :
كلما اشتعلت نارهم فالسماء
بها مطر بارد …والحمام
يحوم فوق الحريق
لتكون معادلة الحرب في ضجيج آلياتها وصخب معاركها وانتصاراتها الزائفة ( لا يعدل نصر إلام ..تحدق في المولود ..الخارج توا ) وليكرس حياة العراقي الجنوبي على لسان عريف متقاعد اسمه حطاب يردد لازمة :
“لا أزرع من أجل الأكل، ولا للزينة لكني أزرع تعويضا”.
وتتضح وجهة نظر الشاعر في معظم قصائده اتجاها يمجّد حياة الجماعة، وهي وجهة نظر قارة في معظم نتاجه الشعري فهو شاعر لا يملك هموما ذاتية خاصة، بل تنحصر معاناته في معاناة الآخر المهمش، البسيط من الناس.
نجد في صوره الشعرية وسرده الشعري وتقنياته التي تستفيد من السينما وبقية الفنون توظيفا موفقا لحياة الجنوبي النبيل والكريم وحامل المبدأ الإنساني، الذي يعلي رتبته في قصائده القصيرة والطويلة، متخذا من همومه وضياع حقوقه وتبدّد حياته أنموذجا للدفاع عنه مرة بالسخرية المرة من مضطهديه، ومرة أخرى بوصف أعماقه وتشوفاته الصافية، بمفارقات يغلب عليها طابع المرح.وعالم الشاعر كاظم الحجاج شديد الخصوصية بأساليبه المبتكرة ومجازاته التي تميزه عن غيره من الشعراء
بنية المفارقة
تتسم قصائد الشاعر القصيرة بالتكثيف العالي والتوهج والتركيز الذي تتسم به قصيدة النثر، وعلى الرغم من توفر الوزن في معظم هذه القصائد (بحر الخبب أو الرجز) فإن الشاعر يعمد إلى عرقلة انسيابية حركتها باستثمار زحافات متنوعة بالحذف أو الإضافة إلى البحور الشعرية باتجاه الإبطاء، الذي يضعها ضمن إطار قصيدة النثر، ولينشئ مجالا بصريا وتأمليا لقارئ هذه القصائد.
ويلاحظ في بنية هذه القصائد أنها تعانق مجرى الحياة في حركته الرتيبة، وسيولة الزمن البطيء فيه، غير أن الشاعر يلجأ إلى المفارقة الساخرة التي تفجر الدلالة وتضفي على الجمل الشعرية الرتيبة حيوية فائقة وامتلاء يعلو بها إلى مصافي الشعر الجميل.
ونرى أن بنية المفارقة الساخرة في شعر الشاعر كاظم الحجاج، لا تنتمي إلى المفارقات اللغوية التي ابتكرها الشعراء العرب من خلال المجازات الشعرية المعروفة كالاستعارة والكناية والتشبيه وغيرها، بل تنتمي إلى بنية الصورة الشعرية المستقاة من حياة الناس وتوظيف مفردات الطبيعة وغيرها مما يحيط بالإنسان أو استخداماته المتنوعة، إضافة إلى المجازات الحديثة التي كرستها قصيدة النثر في الاستفادة من الفنون المجاورة كالسرد والسيناريو والحوار.
كما أن هذه المفارقة تبنى بالتحديد في قصائده القصيرة باستثمار الصور الحسية التي توفرها كائنات الطبيعة كالنبات والحيوان أو من خلال اشتقاقات مبتكرة من اللغة لتكريس علاقات غير متجانسة لتصبح متآلفة ضمن النسيج اللغوي للقصيدة من خلال صور حسية محسوبة بدقة وذكاء.
في قصيدة “الفجر” يطمح العنوان بحمل دلالة أعمق تخص المستقبل المشرق بإنشاء جمل مشهدية ذات أفعال منفية بما النافية وأداة الجزم “لم”، تصور حشودا ساكنة وغير فاعلة من الفلاحين والعمال والرعاة وحشد من الجميلات باستثمار واو العطف التي تسهل الانتقال من مشهد ساكن إلى آخر مثله وصولا إلى جملة المفارقة التي تعلن: “فإن صياح الديك وحده/ لن يصنع فجرا جديدا”.
ونلاحظ في بنية جملة المفارقة تمرّدها على الجمل السابقة عليها التي تجيء كتفسير أو لتدشين معنى محدّد يريده الشاعر، وهذا التمرد يتجسد في المعاني والدلالات التي تنتجها جملة المفارقة إذا قرئت لوحدها، فجملة المفارقة في قصيدة توحيد “مجد الرمانة حب الرمان” هي جملة شعرية مكتفية بذاتها ولا تحتاج إلى ما قبلها كي تنتج دلالة التوحيد.
في قصائده الطويلة نسبيا ينحو إلى ترميم عالم الناس المغلوبين بالاستفادة من تقنيات فنية كالحوار في قصيدة “لقاء إذاعي” أو السيناريو في قصيدتي “مساء ـ داخلي” و”سيناريو موت جندي” أو دمج التقنيتين في القصائد الأخرى.
ومن هذه القصائد المعبرة عن نزعته الشعرية ووجهة نظره عن الحرب وتقنياته الزاخرة بالصور الحسية الأخاذة والألوان اخترنا المقطع الثاني من قصيدته الطويلة ( أربعة وجوه بصرية تحت القصف ) الذي جاء بعنوان (الفراشة الخضراء) ، نموذجا يمتزج فيه الحدث الواقعي بخيال الشاعر الذي يرفع رتبة المأساة الواقعية إلى واقعة شعرية تتخطى زمانها وتقف زاهية الألوان تدين الحروب ومشعليها وتعلي مقام الإنسان وأحلامه في كل زمان ومكان :
( صبية في الحادية عشرة ، خضراء العينين اسمها ( إهداء) كانت تقف على الرصيف – أمام بيتها- تنتظر شيئا …ربما كانت تنتظر الشظية التي مزقت رأسها )
إذ يسقط الندى
على حدائق المنازل
في الفجر
تفتح الصبايا عيونهن ثم حين تعكس المرايا
عينين خضراوين كالمروج
تختار ( إهداء) لعينيها قميصها المخضر لون العين
وترتدي وشاحها الأخضر
وحينما تهم بالخروج
تصير ( إهداء) وعيناها فراشة خضراء
يا فرق الإنقاذ …
هل بينكم من يستطيع أن يغير اتجاه قنبلة ؟!
من يستطيع أن يزيل الدم ؟
وان يعيد للقميص لونه المخضر ؟!