يوسف عبود جويعد
تتيح لنا بنية العنونة في رواية (السقشخي) للروائي علي لفتة سعيد، فرصة للولوج في بنية الشخصية، للارتباط الوثيق بينهما، كون هذه التسمية تطلق على من يسكن مدينة (سوق الشيوخ) في محافظة الناصرية، كونها اختصار لهذه الكلمتين، شأنها في ذلك شأن من يسكن بغداد فهو بغدادي، ومن يسكن البصرة، فهو بصري، ومن يسكن الموصل، فهو موصلي، ومن يسكن سوريا، فهو سوري، ومن يسكن مصر، فهو مصري. جاء ذلك على لسان بطل الرواية (ماجد), عندما كان يدرس ومن خلال سؤال وجه للطلاب عن التسمية الصحيحة لساكني (سوق الشيوخ), عندها نكتشف أن شخصية البطل من ساكني هذه المدينة الجنوبية الاثرية, الغارقة في القدم, ولكن الامر الذي يثير الاهتمام, هو أن المتلقي يتوقع قبل الدخول الى عالم هذا النص, بانه سيكون مع أحداث تدور داخل تلك المدينة, لكنه يتفاجأ بأن بداية الاحداث تدور في إحدى الولايات الأميركية, بتفصيلات دقيقة تنم عن معرفة تامة بالحياة هناك, وقد اوكلت مهمة سرد الاحداث لبطل الرواية (ماجد), كونه المحور الاساسي والرئيسي للمبنى السردي, ومن الوهلة الاولى نشعر بالتصاق حميمي مع هذا البطل, الامر الذي يجعلنا نتواصل معه في رحلته هذه, وقد قطعت الاحداث الى محاور متعددة, تتناوب بالظهور, بشكل انسيابي, حيث نتابع ظهور البطل في امريكا مع زوجته زينب وهي من اصل لبناني, الا انها مقيمة في امريكا, ولها سكن فيها, وتعرفت على ماجد في لبنان لتنقذه من هذا الهروب المستمر, ثم تظهر قطعة سردية من محور آخر, هي حياته في سوق الشيوخ, وتليها لوحة اخرى عن اعتقاله في مديرية امن الناصرية, والتحقيق والتعذيب لأنه نطق جملة فيها مساس للسلطة إبان حكم الصنم الساقط ,وهذه المقاطع المتناوبة من سير حركة الاحداث السردية, هي ذاتها مسيرة الاحداث وفق السياق الفني الصحيح لفن صناعة الرواية اذ إننا نكتشف حضور الادوات السردية المطلوبة للتدوين النص, وقد اهتم اهتماماً كبيراً في إظهارها, واستخدامها مجتمعة, دون تخلف احداهن عن الاخرى, الشكل المضمون, الزمان, المكان, الشخوص, الاحداث, والثيمة, وكل هذه الادوات تتطور وتتوضح اكثر, كلما اوغلنا في متابعة هذا النص, حيث أن ماجد هرب من مدينته التي يعشقها حد الوله مضطراً, بعد أن وجد حياته مهددة, بعد اعتقاله, وصارت خطواته مراقبة ومحسوبة, وكانت مهمة الروائي ان يكون مشرف يحوم فوق سمائها, لينقل لنا هذه المقاطع السردية للاحداث بشكل متناوب, ويهيأ المتلقي للانتقالة الثانية بنسق تتابعي , دون ان يهمل الجوانب التي تمنح المتلقي متعة المشاهدة والتشويق والمتابعة , كون الاحداث تضم بين ثناياها مفاجآت جمة تخدم وحدة وتماسك المبنى السردي, اذ أن ماجد عندما يصل الى ولاية (مانهاتن) الامريكية, والتي تشخص بناية المركز التجاري العالمي فيها, يقف متأملاً فرحاً لايصدق أنه يراها, ويقرر أن يلتقط الصور التذكارية لهذه البناية الشاهقة الارتفاع وأثناء ذلك (رفعت رأسي وبلا شعور كانت الكاميرا بيدي وأنا أصوّر لحظة ارتطام الطائرة.. باحثاً عن فسحة أكبر من نافذة السيّارة.. وثمة خفقانٌ كبيرُ يضرب صدري ويجادل لحظة الانغماس في شعور الاطلاع والرغبة في معرفة الاشياء التي حولي.. نزلت من السيارة لأرى المشهد أمامي كاملاً في الاتجاه المستقيم للشارع المؤدي الى المأساة.. أحاول تتبع حركة الدخان الهاربة من نوافذ المركز.. كل شيء يجعلنا في دائرة الهلع والانبهار في الوقت ذاته.. يرتطم داخلي فتتسور الارتعاشات على شكل فقاعات سميكة غير منتظمة فأتحول الى طفل مرعوب.. لحظات حتى رأيت طائرة أخرى.. صرخت بزينب ان تنزل من السيارة.. كانت ساعة الكاميرا قد سجلت لحظة ارتطام الطائرة الثانية في البرج الثاني ,) ص 28 . بالرغم من اهمية هذا الحدث الكبير, الذي هز اركان الدنيا, كونه من الاحداث الكبيرة التي لا يمكن للعالم نسيانه, ولكنه لم يضم في متن النص محظ صدفة, بل أنه تمهيد لاحداث سوف تدور ضمن المسار, وبالرغم من هرب ماجد لمضايقة السلطة في مدينته له, الا انه يتفاجأ ايضاً وهو في امريكا بمركبة ورجال من الامريكيين يعتقلونه بتهمة مشاركته بحادثة هذا الانفجار, وبهذا بدا نمو الشخصية المتأزمة يكبر, وصارت مساحات المعاناة اكبر من احتمالها وبدأت الاحداث تنسج خيوط الحبكة بأتقان, فالحظ العاثر لبطل هذا النص الهارب من الاعتقال, الى الاعتقال, يؤكد قسوة الحياة وصعوبتها, ومع هذا, ونحن نعيش حالة التدهور الذي احاق لبطل النص, الا أن المقاطع السردية مستمرة في الظهور متناوبة, لننتقل الى الاعتقال في امن الناصرية, او الى حياته وسط اهله واصدقاءه وابناء مدينته, وهو يطوف بنا في الشوارع والمحلات والاسواق والشخصيات البارزة والمميزة فيها, وهو يصفها بكل صدق كونه ولد فيها ويعرف كل شاردة وواردة فيها, مما يؤكد عمق الاتصال الروحي وحبه لها, كما أن الروائي استطاع أن ينقل لنا قسوة هذا الاعتقال والتعذيب الذي تعرضه, والتحقيقات التي رضخ لها من اجل الحصول على الاعتراف باشتراكه بهذا الحادث. أن حركة التناوب في عملية سرد الاحداث, بين الدخول الى الماضي, والخروج الى الحاضر, والتنوع في ذلك فتح مساحة واسعة للروائي ليكون ملماً ومسيطراً في نقل الاحداث, بل وعليه تحريكها وتطويرها, ليزج بتلك اللوحات التناوبية نحو مسارها المتصاعد المتواتر المحتدم, حيث نجد النمو يشمل جملة الادوات السردية المستخدمة, والتي تشبه الى حد بعيد, حصاة ترمى في نهر راكد, لتشكل دوائر صغير ثم تكبر وتتسع, وهذه الدوائر حدثت في متن النص, الذي يشبه النهر الراكد, وعندما رميت هذه الحصاة حدثت تلك الدوائر, دائرة لحياته في امريكا, ودائرة لاعتقاله فيها, ودائرة لاعتقاله في مدينته, ودائرة لحياته فيها, وهذا الدوائر تكبر وتتسع ايضاً بشكل ملفت للنظر, وعلى الروائي أن يمسك بكل تلك الخيوط, ويظهرها بشكل متناوب بالظهور, ويجتاح فضاء السرد حس من الاسى والحزن والاكتئاب, والاحساس بعدم الاستقرار, وان حياتنا في هذا البلد وغيرها, هي رحلة يسودها التخبط والانغلاق, اذ أن الروائي رسم ملامح شخصية البطل لتكون نموذج يشمل الجميع, حيث الجميع مشترك في هذه الحياة, التي لا نملك ارادتنا وحريتنا فيها, وبعد ذلك تلتحق دائرة جديدة لتنضم الى هذا الكم من الدوائر, بعد ان يقررماجد العودة الى مدينته والى اهله وناسه والى وطنه ( تخيلت ان الدهشة ستكون رفيق دربي وهي التي تعقد لساني وأخاف الوقوع في بئر غارقاً بالحسرة والأسف, وأصّدق قول زينب التي اشتقت لها كثيراً إنها كانت على حقّ من أن المتغيرات التي حصلت في العراق, لن تكون متاحة لواحد مثلي.. كنت أخاف أن أجد الجميع وقد صار مثل النائب ضابط حنون.. الشرطة المرتشون وحرّاس شعبة الحزب والرفاق البعثيون وكتاب التقارير هم الآن يقودون المسؤولية بوجوه ملتحية.. خفت أن اجد بائع القمصان إمام جامع بعد ان قدّم الولاء الجديد.. فتخيلته كيف يئم الناس بالصلاة وبتقدمهم في المواكب .)ص 188
وهكذا وبعد رحلة العذاب والاعتقالات والخوف, وبعد التغيير, يجد بطل هذا النص, وبعد عودته, أن الحال سار من سيء الى اسوء, وان الحياة داخل هذا البلد تشعبت حتى خلت من الملامح الواضحة, وصار للحياة فيها وجوهاً كثيرة, كما أشار الروائي ضمن مبنى السرد أن دخول الامريكان للبلد, لا لانقاذ البلد من حكم متسلط, وانما هو تدمير للبنى التحتية التي اثرت في حياتنا, وقدم لنا مثل في ذلك, فعندما دخلوا الامريكان الى مدينة سوق الشيوخ, وتوجهوا الى الدير, ليسرقوا منه تراث يهمنا نحن. ولو قمنا بتفكيك هذا النص فاننا سوف نكتشف:-
– الحياة الاولى وهي حياته بين اهله واصحابه وابناء بيئته والتي ظل متمسك بها ومرتبط بها كونها الجذور التي يستمد منها وجوده
– الحياة البديلة:- وهي هروبه الى الاردن ثم الى لبنان ثم الى امريكا وقد اراد لها ان تكون بديلة الا انها لم تحقق ما يريد وبقي وجوده دون ملامح
– الحياة بعد التغيير:- والتي وجدها تغرق في بحر من الظلمات وتسودها حالة لم يكن يالفها من قبل وتشوبها الفوضى والتخبط وتحكمها اطراف دينية متبارية وكانت تلميح لاعتقال ثالث
(كنت أحاول الإسراع للوصول الى البيت.. ثمّة شيءٌ ما ينغصني وثمّة خيط يطاردني يصرخ لإخافتي, كأنه نباح كلاب ضالة.. أفكر أن زينب هناك تنتظرني.. ربما أتأخر كثيراً في العودة إليها.. فوجه ناصر يشير لي أن الخطوة الاخرى لن تكون سهلة أحاول أن اختفي.. لأعود الى ذلك القدر المشؤوم الذي يلاحقني انى ذهبت ويرسم لي قضباناً تمنع عني الشمس ردحاً جديداً.)ص246
ويتشظى الخطاب الادبي داخل النص ليكون خطابا انسانيا وسياسيا واجتماعيا وحتى خطاب لرؤية مستقبلية لحياة فيها الامن والامان، اما الانساق الثقافية المضمرة داخل النص فانها تشير الى مدى وعي وثقافة الروائي في الامكنة التي مررنا عليها من خلال النص وقدم تفاصيل وافية عن الحياة في مدينة سوق السيوخ والامكنة المهمة والشوارع والاسواق والمناطق الاثرية فيها بشكل يجعلها وثيقة معرفية يستدل بها من يريد ان يعرف الكثير عن هذه المديتة
رواية (السقشخي) للروائي علي لفتة سعيد , عمل ينم عن حرفة ومهنية عالية في صناعة الرواية, ويطرح اسألة كبيرة ومهمة, تحتاج الى اجوبة كما يكد لنا انه يريد ايفاء الدين الذي في عاتقه للمدينة التي تعني جذوره الاصيلة, وقد استلهم الروائي نسقها الفني ودورة احداثها من اسلوب فن صناعة الرواية الحديثة. كما انها تؤكد على ضرورة ان يحمل الروائي على عاتقه مسؤولية قيادة الحياة في هذا البلد, من دهاليز الظلام, الى حيث النور والوعي, وهي مهمة المثقف ودوره.