يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 9
حوارات مع جرجيس فتح الله
واما بخصوص رفاقي الذين شاركوني التأسيس . سواء منهم الموقعين وغير الموقعين . فهناك الزميلان المحاميان (عبد الرحيم) وهو اخ(لعزيز ) شقيق . و(توفيق منير) وهو ابن عم وصهر ل(عزيز)زوج اخته . وهنا اود الاشارة الى الظاهرة الملفتة للنظر لتأثير الرابطة العائلية في الحياة السياسية العراقية . بل حتى رابطة الجيرة في المجتمع الضيق . وبهذا المال كنا نعد السيدة (نورية ) زوج عزيز من المؤسسين ايضا وكذلك الاستاذ (عامر عبد الله) وكان الى جانب (عامر) من المؤسسين غير الموقعين زميلنا كمال عمر نظمي والمدرسين حسين عبد العال وعبد الجبار وهبي الذي خرج فجأة الى الحياة العامة في عهد قاسم بمقالاته المحكمة النسج في جريدة (اتحاد الشعب ) متخذا له توقيع (ابو سعيد) ، بعد الرابع عشر من تموز مباشرة ، هؤلاء بخلاف زوج (عزيز ) وجدناهم يتحولون بعد انحلال الحزب الى المعسكر الماركسي ليتبؤوا مناصب قيادية في الحزب الشيوعي العراقي المتحد . واضنك تجد الكثير عنهم في كتاب (حنا بطاطو ) الشهير الموسوم :” الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية العراقية”.
س: اسمح لي بمقاطعتك هنا ، ما دمت قد نوهت بهذا الكتاب الذي اثار اهتماما كبيرا وضجة ولا سيما بعد ترجمته الى العربية . ما هو رأيك فيه ؟ كتبوا كثيرا من التعليقات والتصويبات له . واثنوا عليه بالمقابل وسيكون من المفيد ان يتعرف قراء (خه بات) على رأي فيه ذي وزن كرأيك . وان كان هذا سيحيد بنا عن السؤال الأصلي .
في العام 1973 كنت مقيما ببيروت . أواظب يوميا تقريبا على الحضور في مجلس المأسوف عليه الاستاذ هاشم جواد وزير الخارجية حتى نهاية حكم قاسم وهو وقتذاك مدير دائرة الشرق الاوسط التابعة لمنظمة الامم المتحدة بمقرها في بيروت . كنا نجتمع في مقهى يعرف بمقهى (العم سام) المقابل لمباني الجامعة الأميركية ، فينضم الينا صفوة من رجال العلم ولفيف من اساتذة الجامعة . ذكر لي الاستاذ(جواد) يوما ان مؤرخا عربيا كان قد قضى في العراق مدرسا سنوات عدة وهو الان استاذ لتاريخ الشرق الاوسط في جامعة برنستن في الولايات المتحدة يعكف على جمع مواد لكتاب تاريخ سياسي اجتماعي عن العراق وانه اشار عليه بأن يتصل بي لهذا الغرض . ولم اجد مانعا وضربت له موعدا . وهيأت نفسي للإجابة عن اسئلة ما كنت اتوقع غيرها – اعني ما يتصل بالحركة الوطنية الكردية . والاستاذ هاشم يعرف موقعي فيها معرفة جيدة -. عندما حصل اللقاء في الفندق الذي كنت احل فيه راح الاستاذ( حنا بطاطو ) يسألني عن شؤون بعيدة كل البعد عما كنت اتوقعه . ولم اجده يبدي اهتماما عندما حاولت ان اعرج به على ماهيأته له . فرجحت اما ان يكون على اطلاع كبير بهذه الناحية بحيث لا يحتاج الى مزيد و واما ان التأليف الذي ينتويه ليس بتلك السعة والضخامة التي ظهر بها بعدئذ .
الخلاصة لم يكن اللقاء مثمرا وختم بعد اقل من ساعة . بعد نحو عشر سنوات سمعت بصدور كتابه فأسرعت بأنتقاء نسخة منه وانا في ايران . كان كتابا ضخما يقع في 1300 صفحة تقريبا وقرأته برمته . واصدقك القول – مع اعجابي به – انه خيب ظني من جانب الثغرة الكبيرة فيه . لم يتحدث عن المسألة الكردية بتفصيل وجدية بل بنحو استطرادي هامشي ، او بمنحى جانبي عابر . وبرغم أهمية الكتاب العظيمة كمرجع رئيس من مراجع تاريخ هذا القطر ، كتب بروح حياد وتجرد من اي غرض عقائدي او عاطفي معين . الا ان القارئ الملم المتابع سيبقى يفتقد فيه عنصر لموازنة في تصنيف الاحداث والوقائع ووضع كل واحدة في المنزلة التي تستأهلها بين الوقائع الاخرى وكذلك فعل بالنسبة الى تحليله الاشخاص وذكر سيرهم اولئك الذين اهتم بهم بنوع خاص.
يوسف سلمان يوسف “فهد”
س: هل يخطر ببالك مثال ؟ لا بد تعلم ان الكتاب ترجم برمته الى العربية وان كثيرا من المثقفين الكرد يأخذون عليه هذه النقيصة.
أظنهم محقين في هذا وهو ما لفت نظري كما قلت وقد علمت من جهات تتصل به انه اقر بخطئه الكبير في عدم ايلائه المسألة الكوردية حقها في تاريخه وبلغني انه كان يعد العدة لاستدراك ذلك في طبعه ثانية كان ينتويها الا ان الموت عاجله . لا يحضرني كثير من الامثلة على قصور فيه من هذه الناحية ، فالنسخة التي كنت قد سجلت ملحوظاتي على هامشها ليست تحت يدي الان لكني اذكر شيئا من ناحية فقدان الموازنة فقيادة البارزاني وحربه وحياته مثلا كانت اعمق اثرا في تاريخ العراق من حياة وسيرة (يوسف سلمان يوسف ) )فهد) سكرتير الحزب الشيوعي في فترة قصيرة مثلا . لم يحظ الزعيم الكوردي منه في الكتاب غير عبارات منتثرة هنا وهناك فيما حظي (فهد) بسيرة ينتظمها فصل كامل ان لم تخني الذاكرة . وليته كان ملما الماما جيدا ايضا بسيرة هذا القائد الشيوعي برغم كل الجهد الذي بذله في ذلك . مثلا ومما علق بذهني . لم يكن يدري ان احد الكتاب الانكليز الف عن فهد كتابا يتراوح بين القصة الروائية والمساجلة السياسية وقد طبع في انكلترا وتسللت منه نسخ الى العراق وعنوانه بالانكليزية : (فهد بين العشب ) والظاهر انه كان حصيلة لقاءات عديدة بين الكاتب وبين فهد بالذات في بغداد وفي وقت ما من ايام الحرب وان اللقاءات كانت في احدى المقاهي المطلة على دجلة في شارع ابي نؤاس كما اذكر . ولم يكن (حنا بطاطو) ايضا يدري بأن لفهد شقيقا رابعا يدعى (طارق ) نجح في اخفاء علاقة الاخوة هذه عن السلطة ايما نجاح . فقد بقي طارق ) هذا موظفا في القلم السري بدوائر الشرطة الى الاخير دون ان بفطن اليه احد . وعلى اية حال . فأن كاب (حنا بطاطو) وهو كتاب مرجعي لا يستغني عنه اي متتبع لتاريخ العراق الحديث.
س: شكرا. ولنعد الى اصل السؤال . وقفنا عند حد استعراض لزملائك مؤسسي الحزب .
ظهر فيما بعد ان البقية وهم اكثرية المؤسسين ، ليسوا ماركسيين وربما كنوا ذوي نزعة ديمقراطية اشتراكية . ثلاثة منهم زملاء دراسة ومحامون . وهناك المحامي عبد الامير ابو تراب الذي ترك العمل السياسي على ما اظن والاستاذ عبد الرزاق الزبير الذي خرج فجأة الى ميدان العمل السياسي بعد الرابع عشر من تموز وعين ان لم تخني الذاكرة عضوا في اللجنة التي قامت بصياغة قانون الاصلاح الزراعي ولا ادري اكان بعد تعطيل الحزب ضمن تشكيله السري ام لا –
قبل قيام فكرة تأسيس الحزب بأكثر من اربعة اعوام . كان استقطاب الحركة الديمقراطية حول (صوت الاهال) قد تقطعت اسبابه بفرقة لالقاء بعدها بين الثلاثة الذين قدر لكل منهم فيما بعد – اي عند اجازة الاحزاب – . ان يترأس واحدا من الاحزاب الديمقراطية الثلاثة المحازة . ووجه المفارقة هنا اني كنت على معرفة وعلاقة بكل من الاستاذ كامل الجادرجي وعبد الفتاح ابراهيم قبل ان تكون لي اي معرفة او علاقة بالذي كنت سأرتبط به سياسا وعاطفيا زمنا طويلا اي (عزيز شريف) .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012