مرارة أخرى

عادل الصفار
مرة أخرى يصطبغ أفق البحر بلون وردي معلناً انطفاء وهج آخر للشمس بين امواجه المتلاطمة.. ولأول مرة منذ زمن بعيد يشرق في أفق حياتي المعتمة وجه انثى يتألق بابتسامة راحت تبدد عن سمائي قطع غيوم سوداء ثقيلة محملة بمرارات كالحنظل لم يكن ليخفف عن نفسي وطأتها سوى شاطئ البحر.. ملاذي الوحيد الذي اهرب اليه من جميع إخفاقاتي ومحاولاتي الفاشلة التي استنزفت سنين عمري ومواسم حياتي.. ألجأ إليه لأطفئ بين أمواجه لهب أمواجي المتلاطمة بداخلي.. محاولاً جعل مراراتها تنجرف مع الرمال فتتلاشى في سعة البحر وأنا أتأمله محدقاً فيه تارة وفي الوجوه السعيدة تارة أخرى.. الذين نجحوا في تحقيق أفضل وأجمل حلم في حياتهم، هو ذلك الحب الحقيقي الصادق الذي وحد نبضات قلوبهم، وتصاعد أنفاسهم، وخلجات نفوسهم.. لذا هم سعداء بنجاحهم الباهر.. فهنيئاً لهم تشابك الأكف والعناق وتبادل القبل الملتهبة حباً يزداد اتقاداً.. نار تطفئ ناراً فتزيد النفس والروح سعادة وألقاً وهناء .. أما أنا فلا سلوى لي غير النظر حسرة على ما منيت به من إحباط في النفس والروح يتفاقم كلما اصطبغ الأفق بلون وردي معلناً انطفاء وهج الشمس بين أمواج البحر.. وما انفكت تلك الذكرى التعيسة تتوهج من بين رماد السنين المتراكم كتلّ عالٍ على جميع مشاعري وحواسي فتعود تتجسم في مخيلتي بكل قساوتها التي عكرت حياتي وجعلت منها مياهاً ضحلة بين جدران غرفتي التي اغلقت نوافذها منذ زمن بعيد وحولتها الى بالوعة مظلمة كي اتحاشى رؤية سكان المحلة ونظراتهم المسمومة والسنتهم التي ما انفكت تسمعني عبارات السخرية والاستهزاء وكأني قرد يعيش بين اجساد بشرية لم يعرف الشعور الانساني طريقه اليهم.. وكل ما في الامر هو انني احببت ابنة الجيران التي تدرس معي في مدرسة واحدة.. تملَّك هواها كل جوارحي فلم اعد أرى صورة اجمل من ملامحها.. ولا عطراً اطيب من رائحتها.. ولا لحناً اعذب من صوتها، فدفعني ذلك بعنف شديد الى حصَّالة نقودي، فتحتها وذهبت بما فيها الى السوق فاخترت لها من بين المعروضات قلادة احببت ان أزين بها صدرها تعبيراً عمّا احمله بقلبي لها.. ولم يخطر ببالي ان اعصاراً سيداهم بيتنا بعنف كاد يقلع الباب من بين جدرانه.. وصراخ أمها يمطرنا بشتى انواع الكلام الشاتم والجارح حتى لم يبق من سكان الحي احداً إلا ودفعه فضول عارم لمعرفة ما يجري عند باب بيتنا.. وسرعان ما تجمعوا صغيرهم وكبيرهم، نساؤهم وبناتهم وراحوا يتضاحكون ويهمزون مطلقين كلمات الاستهزاء والسخرية وهم يرون أمها ترمي القلادة بوجهي وسط دهشة أمي وأبي وأخوتي وأخواتي مرددة بأعلى صوتها:
ـ اسمع.. ابنتي لا علاقة لك بها، فوالذي خلق الكون والكائنات ان اقتربت منها أو كلمتها فلن تلوم إلا نفسك..!!
ومنذ ذلك الحين وأنا أعيش وسط غمامة سوداء وكأنني لا حق لي بما أرى الآخرين يتمتعون به حتى خالجني شعور جعل اعنف صور الموت تتجسم امامي من خلال تهديدات ابي وامي وجميع المحيطين بي.. فتصورت نفسي مسخاً يشبه الانسان لكنه في حقيقته لا يرقى لأي من الكائنات الطائرة أو الزاحفة أو حتى تلك التي تسير على اربع.. لأنها جميعاً تملك حرية الاختلاط والبوح بمشاعرها واحاسيسها وممارسة الحب في ما بينها، أما أنا فلا وجود للانثى في حياتي إلا من خلال ما تحويه دوائر مخيلتي من صور تتجسم من دون لحم ودم ورائحة وانفاس ومشاعر حتى ولدت هذه اللحظة التي اعادتي الى طفولتي وايام براءتي مع ابنة الجيران.. لحظة اخرجتني من زنزانة سجن مرعب معتم حقير وقد اشعرتني في الوقت ذاته بضعفي واستسلامي وخوفي من التحدي ومواجهة كل الظروف بشجاعة تحقق طموحي وتثبت ذاتي.. وجه موظفة اشرق في دائرتنا.. ما ان نظرت اليه حتى تألق بابتسامة كأنها حمامة بيضاء راحت ترفرف محلقة في اجواء حرة آمنة فتملكتني رغبة جامحة باتباعها، ومن دون وعي مني وجدت نفسي احطم قضبان سجني المقيت منطلقاً في الحديث معها.. سمعت صوتها، استنشقت رائحتها ولم اكن من قبل اجرؤ حتى على محادثة عاملة الخدمات.. هذه الليلة اتأمل السماء مبهوراً ليس بصفاء زرقتها ولا بنور قمرها الساطع والنجوم المتلألئة من حوله وانما بجمال ملامحها التي تتجسم أمامي مضاهية القمر والنجوم وزرقة السماء وهي تتألق ببدلة زفاف صممت خصيصاً لها.. عزمت على ان يكون صباح الغد يوما تأريخياً في حياتي، سأصارحها بحبي، سأطلبها للزواج، سنتنزه معاً على شاطئ البحر وفي الحدائق العامة والمتنزهات، سندخل ارقى الاماكن ونتناول اطيب الطعام وألذ الشراب.
*******
عند الصباح وجدتها جالسة ترتشف الشاي في كافتيريا الدائرة.. حييتها وانا اجلس قبالتها حول الطاولة، فبادرتني بالابتسامة ذاتها مرحبة بي وقد شجعتني رغبتها في الكلام معي الى مصارحتها، فقلت لها وأنا أتأمل اشراقة وجهها:
ـ أريد أن أزين صدرك بقلادة ويدك بخاتم.
فعلت الدهشة وجهها وهي تحدق في وجهي بنظرات تنتظر تفسيراً.. وقالت بعد برهة:
ـ هل تقصد انك تريد الزواج مني..؟!!
ـ نعم..
فما كان منها إلا ان اطلقت ضحكة عالية توجهت اليها جميع الأنظار وصغت الينا الآذان وهي تقول بصوت مسموع:
ـ أنا متزوجة.. وأم لطفلين..!!
اعتراني خجل شديد وأنا أخفي رأسي بين يدي على الطاولة بينما الضحكات وعبارات التعليق تنساب الى مسامعي.. لم اجرؤ على النظر في وجه احد منهم فانطلقت متجهاً الى شاطئ البحر لألقي الى امواجه مرارة أخرى.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة