دخان السرد في رواية (حصار العنكبوت)

نصيف فلك

جميع من توغل في قراءة رواية (حصار العنكبوت) للروائي كريم كطافة الصادرة عن دار الجمل بصفحاتها (367) الغاصة بجمال الخسارات، اقول جميع من يقرأها سوف تدمع عيناه على طول امتداد سطور الجبال ومنحنيات التلال ووعورة الوديان، والمصيبة لا يعرف القارئ: هل تدمع عيناه من دخان القرى المحترقة والبيوت المشتعلة والبشر والذكريات والاحلام وجذور العيش، ام تدمع العيون من هول المأساة العراقية التي يعرفها قليل من الناس بتفاصيلها الدموية، أم تدمع عيون القراء من شدة الضحك على النفس وعلى حالهم وعلى المصير الذي بات من شدة الرعب والنزيف يشبه النكتة المتداولة بين المفجوعين؟ هي مأساة تسردها الجبال، هي الشاهد الوحيد على محنة هؤلاء البشر، جبال عملاقة تنظر من فوق الى دمار القرى والبيوت والبشر، وكذلك الاشجار هي شاهد آخر لما يحصل من طمس لآثار الدم ودفن للجثث تحت غطاء صمت الضمير العالمي. الاشجار شاهد عيان على الجريمة والغيوم والضباب وقطرات الماء التي عرفت أهوال العطش في شفاه الاطفال والنساء المحاصرين بين شوارب صدام حسين البعثية. كلما ينتهي فصل من الرواية نرى هناك دبكة كردية فوق الرماد تحت الدخان، دبكة من أرجل مبتورة الاجساد، أرجل وحدها تضرب اقدامها فوق نار الرماد، وهناك أيدٍ وحدها بلا اجساد تلوح في الهواء الملوث برائحة التفاح الكيمياوي.

(القارئ الاستثنائي)
يعيش القارئ الاستثنائي بنشوة السرد الملون والبليغ لرواية (حصار العنكبوت) وهو يستعيد ما حدث هناك بين شعاب جبال كردستان بتفاصيلها المروعة برغم الجمال الاخاذ، خاصة حين يصغي القارئ الاستثنائي لهذا الجبل وهو يسولف له كل ما رأه سابقاً ويراه حالياً لكونه الشاهد المحايد لتاريخ هذا المكان وحياة الناس، لا تفوته مجزرة الفراشات والنحل التي سقطت فوق جثث الاطفال والنساء في حلبجة، كما لا يفوته موت سخلة أو ولادة عجل، هذا الجبل يعرف حتى أسماء المقاتلين(الانصار) واحداً واحداً ويكتنز آهاتهم وحسراتهم التي تشبه براكين صغيرة تثور من أفواههم، كما يضم بين صخوره قصص حبهم واسماء العشاق ورعشات القبلة الاولى، هو يسمع كل ما يمور في صدورهم من حكايات المدن البعيدة في وسط وجنوبي البلاد. ولأنه شاهد لا يستطيع التدخل في المصائر بل يكتفي بتسجيل الاحداث، ويوفر الحماية دائماً لكل من يلوذ به ويحتمي بتجاويف أضلاعه وكهوفه ومغاوره، يوفر لهم التغطية من عيون الرصاص وشراهة نار الطائرات. يسمع القارئ سرد شجرة الجوز العجوز التي تحكي قصص عشاق البلد المقتولين، وتحكي قصص الحب النادرة في لهيب الوجع لصغار العشاق الذين حفروا أسماءهم على لحائها المتجعد بآلاف الليالي المرعبة، الشجرة تحكي وتبكي عن سيول الدم المشع تحت الشمس، وكيف رفضت الصخور شربه وهي تبعده عنها لكي تراه السماء العاطلة عن رؤية الوجع الارضي. هكذا كان القارئ الاستثنائي يقرأ احداث الرواية بمتعة من عاش المحنة ونجا من المجزرة لكي يرويها لكل العالم شبراً إثر شبر لمنطقة الحصار وهو يشم رائحة خبز القرى وماء الينابيع، ويرى المشهد ذاته لأرجل بلا اجساد ترقص في دبكة كردية هناك في دخان القرى المحترقة.
لكن السؤال الكلب ابن الكلب : هل ان جميع القراء مثل هذا القارئ الاستثنائي، خاصة وهم بعيدون عن تجربة (الانصار) في كردستان، وأغلبهم من أجيال لاحقة يجهلون تمام الجهل ما حدث في السبعينيات ومجازر الاعدامات ثم الحرب الشاملة على سكان ومقاتلي كردستان وحلبجة والانفال، هذه مجرد عناوين شاخصة لسلسلة طويلة من البطش البعثي.
هنا تبرز معضلة الكتابة بكل مشكلاتها: في كيفية ما نقدم للقراء من طبق سردي ملون وشهي يحوي كل ما لذ وطاب من الحب والعذاب، هنا تدخل في محتويات الطبق الرئيسي حوادث الرواية المتمثلة في تلك السنين الدموية وفي ذاك المكان المبتور من الذاكرة البشرية بحيث لا يجدها القارئ الاعتيادي غريبة عليه وملامحها نائية في وجوه التاريخ. هنا تكمن اسرار لعبة السرد في توريط القارئ وسحبه الى هذا المكان ـ مكان حوادث الروايةـ وربطه في تاريخه الذي يجهل عنه كل شيء وزجه في ماضيه القريب الذي يحاول جاهداً نسيانه والخلاص من التشبث به. مشكلة السرد هنا ومعضلته : هي في كيفية جر القارئ وربط الحاضر وما يحدث الان وهنا مع حوادث وتفاصيل ذاك المكان وذاك الزمن.(بعد حين مشطوا أشجار الجوز العملاقة بوابل من الاسلحة الخفيفة، لم ترد عليهم الاشجار. ص 340)

(المزاج الثقافي)
ومن يوميات القارئ الاستثنائي معرفة كل ما حصل عن ظهر قلب للشيوعيين واليساريين بشكل عام، هذا القارئ من تلك الاجيال القديمة التي عاش اغلبها خارج أقفاص الاحزاب وخاصة من لم يتلوث بوحل البعث, هذا القارئ يعرف تاريخ البعث والحروب والجرائم، لكن المصيبة في الاجيال اللاحقة والجديدة التي تشكك حتى في مقابرنا الجماعية، وتريد منا تقديم الادلة والبراهين عن كل جريمة وعن كل شخص معدوم. ثم هناك المزاج الثقافي لكل جيل، اذ تتلون خلطة البيئة لجيل تختلف عن كل خلطات الاجيال السابقة واللاحقة، مثلا خلطة جيل الخمسينيات والستينيات لا تتكرر أبداً مثل استحالة السباحة في النهر مرتين. والألم الكبير والمحنة السوداء في تلمس مزاج أجيال اليوم حيث اللامبالات واحتقار الوطن، والبحث عن الغنى السريع واللذة العابرة والهرب من البلاد لأتفه الاسباب، فأنا اجزم ان جميع من هربوا في السبعينيات والثمانينيات كانوا مضطرين بعدما أصبحت البلاد ساحة إعدام وطوامير سجون وحقول ألغام، لذلك هربوا للنجاة من الاعدام ومن الاغتيال والسجن أو في حفظ النفس من التلوث بالبعث.
ومن المزاج الثقافي للاجيال الجديدة: هو التكالب على عظمة النجومية ونيل الشهرة حتى لو كان ثمنه بيع الضمير كما حصل في رواية (قتلة) لضياء الخالدي حين برأ البعثيين والاسلاميين من الارهاب والجريمة المنظمة وأتهم الشيوعيين. كذلك هو بيع الضمير في التزوير وخيانة الضحية في رواية (فرانكشتاين في بغداد) لأحمد سعداوي حين وضع وجه الذباح والانتحاري محل وجه المقتول والمغدور والضحية بحيث لم نجد في سطورها أي إشارة للسعودية والخليج والعرب في صناعة الارهاب، بل جعل الارهابيين أجانب وعراقيين فقط. وكذلك التزوير للشخصيات والاحداث في أسطرة وتأليه الجرذ (صدام حسين) في رواية (سفاستيكا) لعلي غدير، الذي اعاد كتابة رواية (الايام الطويلة) لعبد الامير معلة، ولكن بنسخة جديدة يسرد فيها بطولة جرذ الحفرة (صدام حسين) في صعود المشنقة.
إذا كان المثقف ضمير الامة بهذا المستوى الضحل وهو يبيع نفسه واخوته وامه واباه لكي يفوز بجائزة بوكر السعودية وغيرها من الجوائز الخليجية المشبوهة، فكيف حال القراء البسطاء الذين لا يميزون بين الناقة والجمل ؟
هذا المزاج الثقافي الجديد يتصادم بقوة وعنف مع مزاج تلك الاجيال القديمة من غير البعثيين والاسلاميين، أجيال تربت على المدنية وحب الوطن والانحياز للانسانية والحضارة.
لكل هذه الاسباب والامزجة الثقافية علينا الربط سردياً بين ما يحصل اليوم هنا وبين ما حصل بالأمس هناك في كردستان مثلا، وفرز قيمة وتجربة (الانصار) والعبرة منها في حياتنا المعاصرة وهل التأثيرات مفيدة كانت أم مضرة ولماذا ؟ لكن السؤال الغاشم يقول : كم قارئاً استثنائياً موجود في هذه الايام ؟

(غواية الكتب)
كل عمل ابداعي فيه مشكلات مرئية وخفية وربما لم ينتبه لها الكاتب نفسه وكذلك القراء وربما حتى النقاد، لكن بعض هذه المشكلات يمكن تلمسها من دون عبقرية ونظرة خبير ثاقبة، مثل الشعور في اثناء القراءة بأن بداية الرواية (حصار العنكبوت) ونهايتها ليست بمستوى الفعل الدرامي لبقية فصول الرواية، كانت البداية طاردة للتواصل والاستمرار بدفق القراءة إذ ينسى الروائي دائما بأنه حكواتي وسارد ومسولفجي لكي يبدأ كتابه بحكاية ولنفترض حكاية هرب (حسام وروزا وحياة) أو عندما يحرق ( فؤاد) الفنان التشكيلي لوحاته واحدة بعد الاخرى وكأنه يحرق أطفاله، أو يبدأ الحكاية بأي مقطع توتر عالي التأثير خاصة وان الرواية تغص بمثل تلك المقاطع التي تسرد حكاية يسمعها القارئ للمرة الاولى، هي التي سوف تبحر به الى نهاية الكتاب.
لابد من سؤال أي كاتب لنفسه : كيف يغري قارئ اليوم المزدحم بإغراءات لا أول لها ولا آخر من أفلام السينما والفيديو ومواقع الانترنيت والفيسبوك وتويتر والموبايل والالعاب الاكترونية، أضافة الى روايات مكتوبة على شكل اجساد عاهرات خبيرات بشؤون غريزة القارئ، تعرف كيف تسحبه بين أحضانها الورقية والوصول الى الذروة الشبقية حتى قذف سطور الورقة الاخيرة. طبعا مع إغراءات ابداعية اخرى أدبية وفنية كثيرة كلها تغوي وتستقطب المتسوق ثم تستدرجه للشراء والقراءة والمشاهدة. والسؤال هنا :كيف نجعل القارئ يترك كل هذا الكم الهائل من الإغراءات وينحني ليشتري الرواية؟
هناك اقتراحات نافلة لا تقدم ولا فائدة منها مثل كون اجواء رواية (حصار العنكبوت) للروائي كريم كطافة، أجواء خارج المدن بعيدة عن مكان القارئ، الذي سوف يجد نفسه غريبا وسط مناخ سرد الرواية، مناخ ربما لا يستطيع التكيف معه بسهولة خاصة من الاجيال اللاحقة. ماذا لو ندخل اليه وهو في مكانه في المدينة ونخرجه خطوة بعد خطوة الى خارج المدن ونهربه الى الجبال والوديان واشجار الجوز، وهناك سوف يتعرف على (مي راني) وعلى الخليط العجيب من عرب الوسط والجنوب واكراد من (البارتي) و( الاكتي) وعلي المسيحيين من طوائف شتى وعلى اليزيدي والصابئي وكثير من عراقيين لا نصادفهم في حياتنا. وهناك ايضا يكتشف معنى الوحدة والعزلة والمحنة، التي لا تشبه اخواتها في جميع قارات العالم.. هكذا نسحب القارئ ونستدرجه لمكان الرواية بانسيابية من دون ان يشعر حتى يجد نفسه واحدا من (الانصار). وعلى ذكر مفردة (الانصار) الاسلامية التراثية التي اجده نشاز في قاموس حزب أممي تقدمي اشتراكي وغيرها الكثير يحيلينا الى امة العرب والاسلام، وكذلك استعمال المصطلحات العسكرية ذاتها لنظام البعث. مع استعمال الروائي لمفردات بذاتها عشرات المرات حتى صارت مزعجة مثل مفردة (يداور، مداورة، تدوير وتداور)، ولكن القارئ ينساها ويفقد حس النقد فتضيع وتذوب وتحترق في ذلك الدخان الغرائبي المنوع والخليط الذي يشمه المحاصرون، هو دخان عمرهم وذكرياتهم واحلامهم، دخان حياتهم التي تحترق أمام عيونهم المتورمة بدموع ترفض النزول. مثلما قلت هو مجرد اقتراح نافل لكنه ربما يفيد بالاعمال القادمة. نحن دائماً نحتاج للجمهور حتى في موتنا، هناك دائماً كاميرا تصور الطير الجريح وهو يزحف ويختبأ بعيداً عن العيون في مكان نائي ليموت، حسب تعبير الشاعر عمر الخيام. ومع كل هذا تبقى مأساة الاحداث وانهيار الحياة سر مخبوء تحت كومة أكداس ثقيلة من الاسرار التي تنوء تحت ثقل أسرار اضخم وطلاسم أكبر منها، تنبت فوقها أعشاب وطحالب ودغل مأسٍ جديدة، تلك المأساة الاولى وحدها تحتاج الى جيش من السرديين، حيث دائماً يتكرر مشهد الأرجل المبتورة ترقص مدماة في دبكة كردية فوق سماء النسيان. وتبقى أفدح الخسائر هي انكسار الروح على صخرة الأمل.
12/4/2017

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة