علي حسن الفواز
من الصعب جدا عزل المعرفة عن الحياة، أو حتى وضع المعرفة خارج سياقات أنسنتها، لاسيما وسط عالم تضخمت قواه المهيمنة، إذ تتضخم فيه صورة السياسي وصور الفقيه والجنرال، مقابل تضخم ظاهرة المعسكر وظاهرة الجماعة ومؤسسة الفقه، وهذا مايجعل البحث عن الحلول الثقافية/ المعرفية للأزمات العامة أشبه بالبحث عن اللصِ وسْط العُتمة..
الحاجة الى المعرفة، تقترن بإيجاد البيئة الصالحة لها، لإنتاجها ولتداولها، واستهلااكها هذه التوصيف هو التعبير عن الطموح للحصول على الحق باستعمال هذه المعرفة دون عُقد، أو اغتراب، ومن منطلق الحاجة اليها بوصفها جوهر المشروع الثقافي الذي يُمكنه الدخول الى السوق والمؤسسة والمدرسة والجامع والجامعة، فما يبدو ظاهرا أنّ الواقعَ العربي يتماهى مع المعرفة من خلال موشور السلطة، ومع طبيعة تعالقها بالمقدس، ليس لأنه يعيش الكثير من مظاهر الاستبداد السياسي فحسب، بل لأنّ صناعة هذه المعرفة لم تدخل في سياقات التنمية، وفي برامج التعليم والتربية، إذ هي مسكونة بماهو مُهمّش ومَقصّي، ومُستغرقة بسطوة الوهم والخرافة والشعبوية، تلك التي تجعلنا بعيدين عن أية فاعلية لتأسيس، وعن شروط الحق بالمشاركة الفاعلة في الحوار والتثاقف، وفي مشروعية الحصول على المعرفة، والتخلّص من رهاب الأشباح التي ظلّتْ تشاطرنا أحلامنا منذ أنْ انهارت الدولة العباسية والى اليوم..
المعرفة تعني هنا الخطاب بوصفه التداولي والتمثيلي، وتعني أيضا (المنفعة والمصلحة) بتوصيف غادمير، مثلما تعني- كذلك- الدرس العلمي والأكاديمي، فضلا عن ماتعنيه في تمثلاتِ في صناعة السؤال النقدي، وفي سؤال العقل، وبما يعُطي لنا الحافز على الثقة بضرورة عقلنة لحظتنا الحاضرة رغم كارثيتها، وفي التعاطي مع الآخر والمختلف، بعيدا عن (التورط في المساحة اللامتعينة كمحيط يمكن أنْ يتسع الى مالانهاية) كما يقول مطاع صفدي..
اللاتعيين هنا هو العشوائية، مقابل أنَّ المعرفة تعني لتأسيس والحاجة الدائمة الى التنمية التخطيط، والى أنسنة المُختلف، والى وضع صندوق الأفكار تحت اليد، إذ لامناص اليوم من استعمال هذه الأفكار، وفي كلّ المجالات بدءا من العقائديات وانتهاء بالتقانات، وحتى الحديث عن المشروع الثقافي- في هذا السياق- سيكون أكثر تفاعلا مع المشروع السياسي، بوصفه مشروعا للإدارة والتنظيم والتمكين، ومأسسة العمل على تأهيل البنى(الجامدة) الحاكمة لتكون أكثر قدرة على قبول ستراتيجيات الحداثة والتحديث..
قد يكون صعبا الخوض في هذا المجال، وفي وضع العقل العربي عند عتبات هذه المواجهة الصعبة والمعقدة، لكنّ هذا لايعني الاستسلام للخراب، ولفخ الأرخنة الواهمة، ولكلّ ماهو قهري في حياتنا العربية، مثلما لايعني التلذذ والتماهي النكوصي مع لعبة(جَلد الذات) لإحداثِ مايشبه التطهير الداخلي..
المثقفون وصناعة المعرفة..
التأسيس على ماهو ثقافي قد يكون رهانا على نقد الخراب، على مستوى نقد خطاب السلطة، وخطاب الفقه، وخطاب الأيديولوجيا، وكذلك على مستوى صناعة المعرفة، وبالإتجاه الذي يدعو الى جعْل هذه الصناعة مصدرا مهما للتنمية البشرية، وللتمدّن على مستوى الاجتماع والعمران، وعلى مستوى السوق والتعلّم والعلم، وكذلك على مستوى الممارسة التي تتعلّق بالنقد والكشف، وبتنشيط الفعالية الثقافية لتكون أكثر أهلية، وأكثر تحفيزا وشجاعةً على مواجهة مايجري، لاسيما تلك التي تدخل في مواجهة التاريخ وصناديق أشباحه.
ولادة جيل ثقافي عربي بلا عقد، تعني بالضرورة ولادة(أبستمية) مغايرة، لها شفراتها، وقاموسها، ولها تداولها أيضا، وحتى مايسمى ب(القطيعة الأبستمولوجية) لاتعني- هنا- الهروب الى الأمام أو الخلف، بقدر يعني الحاجة الى مايمكن تسميته بالواقعية الثقافية، والتي تنطوي على وعيٍ بسسيولوجيا المحنة، وبوعي المواجهة، فضلا عن وعي مايحمله التاريخ الجماعاتي من التباسات وعُقد، مقابل وعي العلاقة مع الآخر، الآخر الاستعماري أو الاستشراقي أو العولمي، وحتى الآخر القومي والديني والطائفي، لأنّ هذا الوعي المُركّب هو الداعم الحقيقي لستراتيجيات صناعة المعرفة، وصناعة حيّزها وخطابها وسوقها ومؤسستها، وبعكسه سنجد أنفسنا أمام المزيد من(الأشباح) والمزيد(من صناديق البندورا) مقابل تعطيب أية إرادة تحاول التمرد على لزوجة سرديات الليالي الألف..
صناعة المعرفة هي صناعة تشغيلية واستثمارية في آنٍ معا، إذ من الصعب أنْ نكون(حداثيين) في اللغة وفي آدابها وفي بلاغتها كمايقول أدونيس، وسلفيين في النظر الى الحرية والدين والسلطة والجسد والمختلف، وأنّ تكون نصوصنا مموهة، وخالية من جرأة التأويل، ومن وضع الأشياء في سياقها الاستعمالي بدءاً من سياق الثروة وليس انتهاء بسياق السلطة.
التشغيلي يدخل في سياق ما هو وظائفي وإجرائي وتخطيطي، على مستوى بناء المؤسسات والعمالة فيها، وعلى مستوى تحديد الأطر والآليات وحسابات الكُلفة، لكن الاستثماري هو الأكثر فاعلية في استقلالية ومدنية الصناعة المعرفية، وفي توسيع مدياتها، لأنه يعني أولا التمرد على نمطية الهيمنة التي عادة ماترتبط بمركزة السلطة وبسيطرتها على الثروة والعنف، بما فيها هينمة رأس المال العمومي، ورأس مال الجماعة، مثما يعني ثانيا مشروعيته في المنافسة، والحرية، والشروع بالدخول الى لعبة السوق، حيث سياق العرض والطلب ومعرفة حساسية الجمهور والرأي العام..
حفريات العقل..
حين انشغل ميشيل فوكو بقراءة المشروع الثقافي الغربي، فإنه كان يعمد الى حفر مافي التاريخ، تعريةً للسلطة، وللمعرفة المهيمنة، وللمركز الذي صنع القمع والسجن والعصاب، وحتى للنظام الحاكم..كل هذه الحفريات كان لها الأثر الكبير في تحديد وترسيم ملامح المعرفة، وفي تأهيل مفاهيمها ومصطلحاتها، وحتى تداولها لتغيير مسار استعمالاتها ازاء متغيرات الحاضر والمسقبل..
هذه العتبة قد تصلُح لمقاربة إجرائية لبيان وظيفة النقد في الكشف عن الكثير من(المقموع والمسكوت عنه) في مشهدنا المعرفي، وفي بعث الحياة في صناعته، وفي وظائفه، في صياغة تمثلاتٍ، يمكن أنْ تكفل فاعلية النقد، وتوظّفه في التعاطي مع الاشكالات التي نواجه تحدياتها ومعطياتها، لاسيما مع التاريخ والسلطة والخطاب الديني والأيدلوجيا والجماعة، إذ باتت هذه المكونات مصدرا لإثارة الذعر، وسببا في انتاج مظاهر غرائبية للعنف والكراهية والنبذ، وتهميش مشاريع الدولة الوطنية والتنمية الثقافية، وأنسنة نقد العقل العربي ومؤسساته، حدّ تعطيل أية فعالية للقوى الفاعلة، بمافيه القوى العاملة في حقول الاجتماع والسياسة والاقتصاد والفعاليات المدنية الأخرى..
فاعلية الحفر المعرفي هي جوهر المسؤولية النقدية، وينبغي أنْ تكون جوهر الممارسة الثقافية، وبما يُسهِم في تأهيل الأرضية لصناعة(قوة المعرفة) التي تملك لوحدها مشروعية مواجهة السلطة والمركزة، وتحفّز العقل الجمعي على القبول بالمختلف، والتفاعل مع الآخر بوصفه وجودا، وليس هامشا، وهو مايعني العمل على أنسنة المغايرة، على مستوى الصناعة المؤسسية، وعلى مستوى( التفطّن لكل المشاريع التي تريد أنْ تضمَّ تحت لوائها الجموع لتصهرها في وحدة مزعومة)*
عبد العزيز بن عرفة/ مجلة كتابات معاصرة/ العدد24 / نيسان1995
خطورة الجماعات المزعومة وغلّوها هو أكثر مايهدد الدولة الوطنية اليوم، ويعطّل فاعلية المجتمع الحمائي، وصناعة المشروع المعرفي، إذ تحولت هذه الجماعات الأصولية الى قوى عصابية تتبنى الخطاب المسلح، والفقه المسلّح، فضلا عن شرعنتها للعنف المقدس بوصفه الجهادي والسلطوي، أو بمرجعياته الطائفية والتاريخية، فضلا عن نزوعها الاقصائي والاكراهي ازاء قيم الحرية والديمقراطية والليبرالية والعلمنة والعدالة والحق، وبما يُخضع (الوضعيات الراهنية) للمحنة التي نعيشها الى توصيفات تغيب عنها الواقعية والنقدية، وتغمرها أوهام الجماعات المزعومة ونظريتها في الفكرة الناجية…