محمد زكي ابراهيم
لم يكن ثمة أجمل عندي من منظر باعة الصحف المتجولين، الذين يجوبون الشوارع والأسواق، متأبطين رزماً من المطبوعات السمر والملونة، لإيصالها إلى كل مكان في المدينة. وحيثما كان هؤلاء أكثر عدداً، كان المكان أكثر استنارة. فالصحف آنذاك كانت شرطاً لازماً من شروط الحضارة.
بالنسبة لي شخصياً، لم أكن أجرؤ وقتها أن أرد أياً منهم خائباً. فهؤلاء في نظري باعة الثقافة، ولا بد أن أحظى منها بنصيب، كائناً ما كان ذلك النصيب!
وفي الغالب كان هؤلاء يؤثرون مرائب النقل بين العاصمة والمحافظات، التي لم تكن حركتها تتوقف ساعة من نهار أو ليل. ويجدون في الصعود إلى الحافلات الكبيرة سوقاً رائجة. فهناك على الدوام من يحب تزجية الوقت، والتخفيف من معاناة السفر، في قراءة الجرائد والمجلات. هذه العادة التي اندثرت لدينا، لم تزل منتشرة في أرجاء العالم المتقدم حتى الآن.
وقد نال هؤلاء الباعة نصيبهم من الآلام التي تجرعها العراقيون في السنوات التي أعقبت انعتاقهم من أسر النظام القديم. وذهب الكثيرون منهم ضحية سهلة للعبوات الناسفة والسيارات المفخخة في الأسواق والتقاطعات.
ولم تكن ظاهرة الباعة المتجولين شائعة في جميع الأزمان التي مرت بها الدولة العراقية. ففي بعض السنين كان الحصول على الجريدة الرائجة، أو المجلة المفضلة، يحتاج إلى حجز مسبق. حتى إذا ما حل عقد التسعينيات، وتكاثر عدد الصحف في العراق، أصبح الحصول على هذه الخدمة أمراً لا مفر منه. وبات لهذه الشريحة من الناس حضور مهم في كل مكان.
لقد اصيبت هذه المهنة الآن بالكساد. وبدأت ظاهرة الصحف المحمولة باليد بالاختفاء. حتى غدا الحصول على نسخة من الصحيفة أمراً متعذراً إلا في أماكن محددة وقليلة، في قلب المدن الكبرى. أما في الأطراف فقد انقرضت منها بشكل كامل.
ماذا كسب العراق باختفاء ظاهرة باعة الصحف المتجولين؟ وماذا جنى العراقيون من أفول نجم الصحافة المكتوبة؟ أسئلة تصعب الإجابة عنها، إلا أن من المحقق أنها كانت ظاهرة مؤسفة بكل المقاييس.
لقد أسهم انتشار عادة القراءة في وقت ما في خلق جمهور متعلم يتحلى بالموضوعية والرصانة. ويمتلك فضيلة الصبر والأناة. ولا ينجر إلى مواقف متعجلة وزائفة. وقد صنعت هذه العادة الجميلة كتاباً ومؤلفين على جانب كبير من الشهرة. وكان من حسن حظهم أنهم ولدوا في تلك الحقبة من دون غيرها، فأضحوا نجوماً كباراً، وبات لكل منهم جمهور عريض.
حينما اختفى باعة الصحف، اختفت معهم ظاهرة الكتاب المعروفين. وأصبحوا هم أنفسهم يعانون من الإعراض والتجاهل، والإهمال والكساد.
كل ما أتمناه أن تبقى من هؤلاء الكتاب بقية تقاوم الانقراض. وأن تبقى الصحف على ندرتها حاضرة في الأسواق. فالقارئ النهم شرط لازم من شروط الكتابة. واختفاؤه سيجعل منها سلعة غير ذات جدوى في عصر العلم والتقنية والمعلومات. ولا أظن أن من مصلحة شعب اخترع الكتابة قبل آلاف السنين أن يتحول إلى شعب أمي. فذلك ما لا يرجوه له أحد في يوم من الأيام.