تقييم الاحتجاجات في تونس

سارة فوير*

اندلعت احتجاجات في حوالي 12 مدينة في جميع أنحاء تونس، وذلك ظاهريا رداً على الزيادة في أسعار الوقود والمنتجات وغيرها من السلع في أعقاب تنفيذ ميزانية عام 2018 قبل ذلك بأسبوع. وفي الأيام التي مرت منذ ذلك الحين، انتشرت الاحتجاجات في أكثر من عشرين موقع. بالإضافة إلى ذلك، أسفرت الاشتباكات مع الشرطة عن مقتل أحد المتظاهرين وإصابة حوالي ثمانين ضابط شرطة بجراح، كما ألقي القبض على أكثر من ستمائة متظاهر. وتعرّضت مدرسة يهودية للتفجير، مما تسبب في إلحاق أضرار للممتلكات ولكن لم تقع إصابات. وتم نشر الجيش في بعض المدن. وستحدد الأيام المقبلة على الأرجح ما إذا كانت هذه الاضطرابات تشكّل عثرة عابرةً في الطريق، أم نقطة تحوّل في المرحلة الانتقالية الهشة التي تمرّ بها تونس.

مصادر الشكوى والمظالم
تأتي هذه الاحتجاجات بعد سبع سنوات من الانتفاضة التي أطاحت بالدكتاتور زين العابدين بن علي – الذي حكم البلاد على مدى سنوات طويلة – وألهمت في النهاية موجةً من الثورات في المنطقة، التي تحوّلت بمعظمها إلى حالة من الفوضى أو العنف أو تجدد ظاهرة الاستبداد. وقد تمكّنت تونس حتى الآن من تجنّب مثل هذا المصير، وأجرت جولتين ناجحتين من الانتخابات الوطنية، ووافقت على دستور جديد يُنظر إليه على نطاق واسع بأنه الأكثر تقدماً في العالم العربي. وبدأت العملية الشاقة والطويلة لتحويل مؤسسات الدولة التي كانت تخدم سابقاً مصالح عدد قليل من النخبة إلى هيئات خاضعة لمساءلة جميع المواطنين.
إلا أنّ المرحلة الانتقالية لم تجرِ دائماً على نحو سلس. ففي الفترة ما بين عامي 2012 و2016، كان موضوعي الأمن والسياسة يشكّلان أهم المصادر المفتوحة لعدم الاستقرار. فعلى الصعيد الأمني، شهدت البلاد هجوماً على السفارة الأمريكية، وسلسلةً من عمليات الاغتيال السياسية، وهجومين إرهابيين تسببا بوقوع خسائر بشرية كبيرة، ومحاولة تمرد في بلدة على طول الحدود الليبية. وتجدر الإشارة إلى أنّ جميع مرتكبي تلك الاعتداءات كانوا أفراد مرتبطين بجماعات إسلامية متطرفة. وباستثناء الاغتيالات التي وقعت عام 2013، كان للإرهابيين الذين وقفوا وراء تلك الهجمات صلات مع ليبيا، مما يشير إلى امتداد التأثير غير المباشر للفوضى من البلد المجاور إلى تونس. ومنذ مطلع عام 2016، لم تتعرض البلاد لحادث أمني كبير، مما يعكس تحسينات في أجهزة مراقبة الحدود وأجهزة مكافحة الإرهاب في البلاد.
أما على الصعيد السياسي، فقد أدى الاستقطاب المتزايد بين مؤيدي الحزب الإسلامي الرئيسي في البلاد، أي “حزب النهضة”، من جهة والأحزاب ذات التوجه العلماني ومنظمات المجتمع المدني من جهةٍ أخرى إلى إيصال المرحلة الانتقالية إلى حافة الهاوية في عام 2013. كما أدت الانتخابات التشريعية في عام 2014 إلى قيام تحالف غير محتمل بين “حزب النهضة” وحزب “نداء تونس” العلماني، الذي حقق منذ ذلك الحين قدراً كبيراً من الاستقرار السياسي، وإن كان ذلك على حساب وقف العملية التشريعية والتأجيل المستمر للانتخابات المحلية.
وفي حين تمكنت البلاد من الحد من التهديدات الأمنية وإقامة نظام سياسي فعال، إلّا أنّ الاحتجاجات الحالية تكشف مدى فشل الزعماء التونسيين في معالجة المشاكل الاقتصادية للبلاد. ففي استطلاع للرأي أجراه “المعهد الجمهوري الدولي” الأمريكي (IRI) في كانون الأول/ديسمبر المنصرم، وصف 89% من المجيبين الوضع الاقتصادي الحالي بأنه “سيء جداً” أو “سيء إلى حد ما”، وهي أعلى نسبة تسجلها البلاد منذ أن بدأ المعهد بتتبع الرأي العام التونسي في عام 2011.
وفي الواقع، تستند هذه التصورات على واقع ملموس. فإلى جانب البطالة المستمرة (15% على المستوى الوطني و 30% بين خريجي الجامعات)، وارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل اللحوم والخضار، استمرت الحالة المالية للبلاد في التدهور. فقد ورثت حكومة رئيس الوزراء يوسف الشاهد عجزاً يشكّل 6٪ من “الناتج المحلي الإجمالي”، وديناً عاماً يستهلك نصف “الناتج المحلي الإجمالي”، وعملةً فقدت ربع قيمتها خلال عامين فقط. وكان “صندوق النقد الدولي” قد وافق في عام 2016 على منح تونس قرضاً لمدة أربع سنوات بقيمة 2.9 مليار دولار، مقابل موافقة الحكومة على كبح جماح الإنفاق من خلال تقليص القطاع العام (الذي يمثل 50% من النفقات الحكومية)، والحد من زيادات الأجور، وزيادة الضرائب، وتنفيذ خطة إصلاح الإعانات. ونتج عن هذه الأخيرة ارتفاعاً في الأسعار، مما أدى بدوره إلى تأجيج الاحتجاجات الأخيرة. وعلى الرغم من التحذيرات التي وجهها الشاهد مؤخراً بضرورة اتخاذ قرارات اقتصادية مؤلمة، إلّا أنّ التدابير التقشفية تأتي في وقت يعاني فيه ربع السكان من صعوبة في تأمين لقمة عيشهم.

المزيد من الشئ ذاته،
أم نقطة تحوّل؟
ليست هذه المرة الأولى منذ عام 2011 التي تشهد فيها تونس احتجاجات ناجمة عن الأحوال الاقتصادية السيئة. فقد شهد ربيع عام 2017 وشتاء عام 2016 احتجاجات مماثلة نتيجة الإحباطات العميقة من انعدام فرص العمل والتهميش المستمر للمجتمعات المحلية في تونس. وفي تلك الحالات، ظلّت الاحتجاجات محصورة إلى حد كبير في الأماكن المضطربة عادةً في وسط البلاد وجنوبها، مثل القصرين وقفصة. إلا أنّ الموجة الحالية امتدّت إلى مناطق داخل العاصمة وحولها، مما ذكّر باحتجاجات عامي 2010-2011.
وقد تكون هذه المقارنات مغريةً، ولكن السياقات السياسية المحلية المختلفة إلى حد كبير، قد تحدّ من فائدتها. كما أن الاستطلاع للرأي الذي أجراه “المعهد الجمهوري الدولي” والذي سلّط الضوء على انشغال المواطنين بالمشاكل الاقتصادية للبلاد، كشف أيضاً عن الرضا المتزايد لأداء حكومة الشاهد في الأشهر الأخيرة، وذلك على الأرجح استجابةً لجدول أعمال الحكومة لمكافحة الفساد – الذي اعتبرته بعض منظمات المجتمع المدني غير كافٍ لأداء المهمة المطلوبة. وقد ارتفعت أيضاً تقييمات الأفضلية التي يتمتع بها رئيس الوزراء الشاهد من (نسبة ضعيفة جداً باعتراف الجميع وقدرها) 21٪ في آب/أغسطس 2017 إلى 34٪ في كانون الأول/ديسمبر. وقد تم إجراء هذا الاستطلاع قبل دخول ارتفاع الأسعار الحالي حيز التنفيذ، لذلك قد تشهد هذه الأرقام تراجعاً مرةً أخرى إذا ثبت أن هذه التدابير التقشفية تتخطى قدرة عدد كبير من المواطنين على تحملها.
ومع ذلك، لا يمكن استبعاد إمكانية تطور الاحتجاجات الأخيرة إلى ظاهرة أكبر، ولا سيما إذا تصاعدت الاشتباكات مع سلطات إنفاذ القانون في الأيام المقبلة، أو إذا قررت شبكات ناشطة في المجتمع المدني الانضمام إلى موجة الاحتجاجات الراهنة. وحتى الآن، أشار رد الحكومة بأنها تحاول التوصل إلى توازن بين التعاطف مع المظالم الاقتصادية التي تقع على كاهل المواطن التونسي المتوسط وإدانة العنف الذي لجأ إليه بعض المتظاهرين للتعبير عن تلك المظالم.

خيارات لواشنطن
بالنسبة لصانعي القرار السياسي في الولايات المتحدة، تذكّر الجولة الأخيرة من الاضطرابات بأن النجاح النسبي الذي حققته تونس في منطقة مضطربة لا يزال هشاً ومعرضاً للانهيار دون إيلاء اهتمام مستمر [للمظالم الاقتصادية]. ومن شأن [تقديم] مساعدة إجمالية طارئة، معززة بمساهمات من قبل الحلفاء الأوروبيين والعرب، أن ترسل إشارة دعم قوية للديمقراطية العربية المتعثرة. كما تعكس الأحداث الأخيرة ضرورة قيام المسؤولين الأمريكيين بتعزيز التنسيق مع “صندوق النقد الدولي” والمسؤولين التونسيين لتحديد مواعيد الإصلاحات المستقبلية من أجل التخفيف من آثارها. وعلاوةً على ذلك، يتعين على إدارة الرئيس ترامب النظر في اتخاذ ثلاثة تدابير لمساعدة تونس على الخروج سليمة من أزمتها الراهنة، وهي: إجراءات اقتصادية، وأمنية، وسياسية.
وحتى الآن، ضمنت الولايات المتحدة قروضاً لتونس بقيمة مليار دولار، مما يُسهل وصولها إلى أسواق رأس المال الدولية التي هي بأشد الحاجة إليها. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2017، أشار مسؤولون تونسيون إلى أنهم يخططون للحصول على ضمانات قروض إضافية بقيمة 500 مليون دولار. ونصّت الاتفاقات السابقة بشكل غامض على توجيه الحكومة التونسية للأموال نحو التنمية الاقتصادية. ولكن هذه المرة، يجب على واشنطن الموافقة على طلب الضمانات، لكن مع ربطها بتعهدات أكثر وضوحاً وتفصيلاً من قبل المشرعين التونسيين بحيث يقرّ هؤلاء بأنهم سيستثمرون الأموال في البنية التحتية وتنمية الأعمال التجارية الصغيرة في المناطق الداخلية المهملة في البلاد.
وأخيراً، يتعين على صانعي القرار السياسي في الولايات المتحدة أن يعملوا بشكل وثيق مع نظرائهم التونسيين للمساعدة في إعداد البلاد للانتخابات المحلية، المقرر إجراؤها الآن في شهر أيار/مايو. وعلى الرغم من أن الاحتجاجات الحالية لم تنجم عن المظالم السياسية بحد ذاتها، إلّا أنّ إنشاء آليات للتمثيل المحلي والحوكمة من شأنها أن تعزز المساءلة لدى الشعب التونسي ويكون لها دور أكبر في اتخاذ قراراته المتعلقة بالتنمية الاقتصادية المحلية، وهما نتيجتان من شأنهما أن تقللا من احتمال حدوث اضطرابات مستقبلية.

* سارة فوير هي زميلة “سوريف” في معهد واشنطن.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة