رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 4
س: أكانت هناك حركة تحررية كردية في الأوساط الجامعية وقتذاك؟

في 1939 و1940؟ ان كان هناك مخاض وطني كوردي فأنا لم اشعر به خلال هاتين السنتين وكاد يكون دوامي في الكلية منتظما اما في السنتين الاخيرتين فقد قل دوامي كثيرا لانشغالي بالتدريس . ان الشباب الكوردي الواعي انذاك كان يتجه بصورة عامة الى اليسار . كنت اعرف مثلا ان السيدين علي حيدر سليمان وحسن الطالباني كانا في وقت ما من عصبة الاهالي ، وما كنت اعرف الاستاذ رفيق حلمي الا وهو مدرس للرياضيات في الناصرية نقل اليها شبه منفي واذكر انه كان يتندر عندما يسأل عن سبب ابعاده الى الناصرية فيقول :”لانني سرقت بطيخا من بستان فلان” وبصورة عامة كانت هناك بلبلة عامة في الاتجاهات السياسية اثناء الحرب وقد استقطبت وظهرت بشكلها البشع المقرف واثارها المدمرة على الحركة الوطنية والمسار الديمقراطي في العراق نتيجة لمواقف الديمقراطيات الغربية السياسية المخجلة قبل الحرب . والمتغيرات الفجائية اثناء تلك الحرب . وكان قد قاسى منها : القوميون العرب والديمقراطيون واليسار معا .
في الاعوام الثلاثة التي سبقت الحرب نشطت الدعاية النازية نشاطا محموما بفضل الحرية التي سمح النفوذ البريطاني لممثل المانيا الدبلوماسي في النشاط . بل شجع البريطانيون تغلغل الافكار النازية الشوفينية كوسيلة لمحاربة غزوة العقيدة الماركسية والحيلولة دون انتشارها . كانت الديمقراطيات الغربية (بريطانيا وفرنسا) ترى في العقيدة الماركسية ومصدرها الاتحاد السوفياتي الخطر الاكبر فأبتنت سياساتها الخارجية على الوعد الذي قطعه هتلر على نفسه بالقضاء على الاتحاد السوفياتي في كتاب “كفاحي” وتداولت الايدي في العام 1938 ان لم تخنِ الذاكرة الترجمة العربية لهذا الكتاب التي عملها القومي العربي محمد يونس السبعاوي بحرية وببركات البريطانيين في العراق في الوقت الذي صدر مرسوم مكافحة الشيوعية والاراء الهدامة المعروفة . كانت النازية في ذلك الحين اشبه بدرع وقاية .
الا ان هتلر خيب ظن هؤلاء الساسة الغربيين اذ فوجئوا قبل اندلاع الحرب بأتفاق مولتوف –ريبنتروب ، وفي الثالث من ايلول 1939 اعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على المانيا اثر اجتياح بولندا واقتسامها بين الطرفين ، وتوجهت الجيوش الالمانية الى الغرب بدلا من الشرق ، ثم بدأت الانتصارات المذهلة وخرت فرنسا صريعة تحت اقدام الفاتح بسرعة مذهلة . كل هذا انعكس على موقف اليسار العراقي والقومي بحدة ، ولم يسمع للديمقراطيين صوت بل كان هناك تشف وارتياح لما اصاب المستعمر البريطاني من ذلة وكان هناك ترقب بأنهيار الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس . ونسى اليسار العراقي حرية الضارية للنازية واختها الفاشية ، فقد اصدر “الكومنترن “. وهو المعهد السياسي المشرف على الحركات الشيوعية العالمية ، ويوحي من الكرملين تفسيره الواجب الاتباع وهو ان الحرب الدائرة هي نزاع امبريالي بين خصمين امبرياليين رأسماليين معاديين للبروليتاريا وضد مصالحها . ووجد اليسار العراقي نفسه في موقف متذبذب يدعو الى الرثاء ايام حركة مايس . قسم كان امينا على تعليمات موسكو هتف للحركة ونشط فيها مع القوميين العرب الذين وجدوا فيها اعظم تحد للنفوذ البريطاني في البلاد الناطقة بالعربية . وقسم اذهلته الصدمة فبقي هاجعها دون حراك . ولم يطل الزمن بالجهتين لتنقشع الغيوم فبعد اسابيع ثلاثة فوجئ العالم بالهجوم الالماني الكاسح على الاتحاد السوفياتي . وعلى اثره دار التفسير الماركسي للحرب القائمة دورة كاملة (360درجة) لتغدو تلك الحرب (الرأسمالية ) حربا تحررية هدفها القضاء على نظام يهدد البشرية جمعاء بمدينتها وقيمها الديمقراطية.
لم اكن في بغداد ايامذاك فقد عدت الى بلدي بعد اسبوع واحد من قيام حكومة الدفاع الوطني وبقيت حتى بداية العام الدراسي التالي. لاجل مقاعد عدد كبير من الطلاب القوميين واليساريين خاليا في مختلف الصفوف ممن نشط في حركة الكيلاني الموالية للمحور وقد جمعوا ووضعوا في معسكر الاعتقال . اما اولئك المترددون الحذرون فقد نجوا.
ووضعت الحكومات التي جاءت بعد حركة مايس بأغضاء وسماح متعمد من السلطة البريطاني صاحبة الكلمة الاولى ، اقول وضعت القانون رقم 51 للسنة 1938 على الرف وراح الشيوعيون يعملون بحرية ويشاركون علنا في المجهود الحربي واخرج الديمقراطيون رؤوسهم من غرارة التبن ، فصرت ارى طاقما جديدا يتردد الى مكتب تحرير مجلة “المجلة”. كان هناك من الشيوعيين المعروفين داود الصائغ ) المحامي و(عبد الله مسعود القريني ) بل و(يوسف سلمان يوسف /فهد) بعينه ” في مبدأ الامر لم يتبين في يوسف ذلك الفتى الذي كان برفقة شقيقته في الناصرية حيث كنا نزلاء في بيت اخيه . ثم عرفني فهش وبش ومنحني واحدة من ابتساماته النادرة جدا . وبعدها اهمل الاحتفاء بي ربما بعد ان علم اني لست شيوعيا “، وكان هناك (قاسم حسن ) وهو من طلبة الصف المنتهي في الكلية وقد اصبح سفيرا للمجر او جيكو سلوفاكيا في عهد قاسم . الى جانب هؤلاء كان (حسن زكريا ) احد الايادي القديمة في المجلة . وسليم طه التكريتي (وهو من زملائي في الكلية ) وخدوري خدوري وهو من اقطاب الحزب الوطني الديمقراطي وزميله (يحيى قاسم) النائب فيما بعد . وكلاهما موظف كبير في مديرية السكك الحديد. “المجلة “. باتت تعمل لقضية الحلفاء وكانت لها صلة بدائرة العلاقات البريطانية ولا ادري اكثر من انها كانت تنشر احيانا صورا واخبارا تردها من تلك الدار . واستبعد ان تلقى (ذو النون ) منها مساعدة مالية . كان فريقا من الشيوعيين المرتادين يختفي احيانا فلا يختلف الى المجلة الا ليعود ثم يظهر فريق اخر ويشق على المرء ان يعرف من هو منتم الى هذه الجهة او تلك اذ كانوا كتلا متخاصمة و مع كل هذا فقد غلبت على المجلة الا ليعود ثم يظهر فريق اخر ويشق على المرء ان يعرف من هو منتم الى هذه الجهة او تلك اذ كانوا كتلا متخاصما ، مع كل هذا فقد غلبت على المجلة المواضيع الماركسية الصميمة ومقالات سداها ولحمتها الاشادة بمنجزات الاتحاد السوفياتي في ساحات المعارك ومجالات التقدم التكنولوجي والاجتماعي وقلت مساهمتي فيها . الا ان (ذو النون ايوب) سلمني ذات يوم ملزمتين منتزعتين من كتاب وطلب مني ترجمتها . كانت جزءا من الترجمة الانكليزية لرواية “الام” بقلم الكاتب الروسي “ماكسيم غوركي” .
واذكر ان –سائر الكتاب وقد طبعت ترجمته العربية في جزأين – قد تم تفريق أجزائه على كل من له وقوف على اللغتين وعلمت من المشاركين معي وفي الترجمة حسن زكريا وذو النون نفسه وقاسم حسن وداود الصائغ وسليم طه وغيرهم وقد تمت ترجمته في ظرف ثلاثة اسابيع وهو رقم قياسي . ثم قمت انا وحسن زكريا بمراجعته لغويا لاستدراك اخطاء المترجمين الاخرين . كان هذا اول عهدي بالترجمة .
الذي كان يدهشني ان الاستاذ كامل قزانجي بقي ينأى بنفسه عن هذه التكتلات لاستقلالية وفردية متأصلة فيه . وافترقنا بعد تخرجنا وامتهن المحاماة كما امتهنتها ثم التقينا في دورة ضباط الاحتياط . ثم افترقنا ولم نتراسل قط ، وكان احدنا يستقي اخبار الاخر من الصحف . واكثرها عنه ، لم يكن شيوعيا ولا ماركسيا . واني لاذكر قوله مشتكيا دائما من “كتابات لينين ” . يقول انه ضيق الافق بذيء في مقارعة الخصوم بعيد عن النهج العلمي الذي يتمسك بالخلق العالي لا سيما في اثناء رده على الخصوم . وعن الديمقراطية انها عملية معقدة يجب ان يتعاون عليها الحاكم والمحكوم بتفاهم كامل . ولا يمكن لثورة عنيفة ان تحققها ، وربما تبني بعض اسس لها ومبادئ ، كان مع هذا ينبري للدفاع عن الشيوعيين في محاكمتهم 1946-1948 كذلك عن رؤساء الاحزاب في المحاكمات الصحفية الشهيرة التي عقدتها وزارة ارشد العمري ، ووقع ضحيتها فقد اثقل كما مر بالسجن واودع سجن نقرة السلمان فعزله السجناء الشيوعيون عنهم وأذاقوه نكالا . وقبل ختام فترة سجنه أسقطت عنه الجنسية العراقية الى جانب عزيز شريف وتوفيق منير ، وسيق الى الموصل ثم الى زاخو مع توفيق وسلما الى رجال الامن التركي حيث احتجزا معا في مدينة (يوزكات ) في قلب ارضوم . ذكر لي معاون الشرطة الذي صحبهما حتى الحدود ان (كامل)انحنى قبل اجتيازها فأحتفن قبضة من التراب ووضعها في منديل ، كما روى لي هو نفسه وقبل 24 ساعة فقط من مصرعه انه بقي طوال اربع سنوات النفي لا يكلم زميله (توفيق منير) لانه كان يؤكد له عبثا بأن ستالين ليس الا دكتاتورا طاغية لا يقل عن هتلر اجراما ، وانه هو الذي قتل الاشتراكية ومرغ وجهها في اوحال استبداد والفردية .

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة