رجال ووقائع في الميزان

يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 3
ممن احتل موقعا في نفسي الزميل (عبد الامير العكيلي ) الذي وجدناه في العام 1960 بمنصب رئيس الادعاء العام في العراق وواحدا من المشاركين الثلاثة –كما اعلم- في صياغة دستور 14 تموز المؤقت . وهناك (يوسف جواد المعمار ) . الذي طحنته دوامة الاعاصير الانقلابية السياسية فراح ضحية محاكمة صحراوية واثقل سنوات سجن طويلة بعد العام 1970 وكان يشغل منصب مديرية عامة خطيرة حينذاك . ثم كيف انسى المأسوف عليه الاستاذ عبد الرحيم شريف بهدوئه ودماثة طبعه وعلو خلقه وادبه الجم ؟ لا ادري كم من هؤلاء سبقني الى دار الفناء وكم ينتظر منهم القطار مثلي فأن احتسبنا المقدار على ضوء الاعمار فليس بين هؤلاء من يزيدني سنوات كثيرة ، وربما كان المأسوف عليه عبد الرحيم شريف الذي دفع حياته ثمنا لما كان يؤمن به ، وبقي حتى النفس الاخير صامدا شامتا بجلاديه اولهم ، كان توقيعي الى جانب توقيعه عند تقديمنا طلب تأسيس حزب الشعب وهو اخ شقيق للطيب الذكر الاستاذ عزيز شريف والسبب في تلك العلاقة الوثقى بكل الوفاء والعطف والاحترام المتبادل بيني وبين هذه الشخصية الوطنية الرائعة صديق الشعب الكردي الصدوق ورفيق مرحلة خطيرة من مراحل نضاله .
الا ان الشخصية البارزة التي كان لها التأثير الكبير في نهج تفكيري السياسي والاجتماعي . وانعكس على اغراض واتجاهات كتاباتي لم تكن بين هؤلاء لم تكن من اترابي امثال الذين ذكرتهم ، بل ممن يزيدني سنا بعدة اعوام ، وهو موصلي النجاد كعبد الحق وفي حدود عمره . وها انا اتحدث عن هذا المثقف الكبير وكلي شكر لرئاسة تحرير (خه بات) بسبب إتاحة الفرصة الاولى التي نشدتها منذ زمن بعيد لا تحدث عن المغفور له الاستاذ كامل قزانجي ، فالى جانب (عبد الحق ) كان هو اقرب الشخصيات الي وابعدها اثرا على تكوين الخط النهائي الذي اعتمدته في عالم الكتابة والبحث . ودع الحياة قتيلا بيد الغدر على مقربة مني ، وخلال ساعات حاسمة بين حياة وموت عشرات مرشحين للقاء عين المصير في واحدة من الحفلات الدموية الجنونية الكثيرة التي مر بها اهل هذه البلاد .
في العام 1935 وقع نظري عليه لاول مرة وهو مدرس اللغة الانكليزية وانا تلميذ له في الصف الاول المتوسط بمدينة الناصرية ، وعلمت اننا من بلد واحد ومن طائفة مذهبية واحدة ، وانه اضطر الى قضاء هذه السنة مدرسا لتوفير ما يؤمن له نفقات المرحلة الاخيرة من دراسته الجامعية في بيروت .
ومرت اربعة اعوام لاراه طالبا معي في كلية الحقوق وكانت مفاجأة لم استعد لها ، لم يعرفني كثيرا عندما كنت تلميذا له ، ولا اريد ان ادخل في تفاصيل نمو العلاقة بيننا ، وكيف تواصلت مع بعد الشقة اي بعد ختام سني الدراسة وفترة دورة الضباط الاحتياط وما اذكره عن هذه الفترة الاخيرة كيف ان صلابته ومنطقه القوي وعناده وبمظاهرتي له ، كان يخرج الملازم الاول احمد حسن التكريتي سابقا – والمهيب رئيس الجمهورية احمد حسن البكر لاحقا – كان يخرجه عن طوره ويملأ صدره حقدا اذ تجعله مواقف (كامل ) موضعا للسخرية والتندر .
كان ذووه يعدونه لخدمة الكنيسة فأدخلوه يافعا معهدا اكليريكيا . وانتبه معلموه الى ذكاء نادر فيه فبعثوا به الى دير الكرمل في فلسطين للدراسة في معهد ارقى . وفيه درس الفرنسية والم باللاتينية فضلا عن وقوف جيد على العربية . الا انه اكتشف بعد بضع سنين بأنه ليس اهلا لتلك الصناعة فعاد وانتظم في ثانوية الموصل وفي العشرينيات كان يسمح للطالب النبيه ان يقفز صفين بأداء امتحانين ، وبهذا استدرك (كامل ) ما فاته من سنوات ولحق بأترابه واهلته درجاته في امتحانات البكالوريا الى القبول ببعثة دراسية في جامعة بيروت الاميركية للتخصص في الاقتصاد السياسي ، وحمل بروزه في مجال الدراسة والانشطة اللامنهجية الى اناطة عمادة الجامعة به رئاسة وفد طلابي رسمي الى جامعات سويسرا. كان ذلك في اواخر العام 1933، وفي حينه كان مندوب العراق في عصبة الامم يحاول بأستماتة ادراء الهجمات المنثالة على الحكومة العراقية وركوب موجة السخط العالمي جراء المذبحة التي اوقعتها حكومة رشيد عالي بالاشوريين العزل في قرية سميل من اعمال مدينة دهوك . واتفق وصول الوفد الجامعي وجود الملك فيصل الاول هناك وعدد من الوزراء وهم يعدون بأشراف البريطانيين الرد الرسمي على تهم القتل الجماعي . وعلم الملك عن طريق الصحف ان عراقيا مسيحيا يرأس وفدا طلابيا لاكبر جامعة في الشرق الاوسط ، فهداه تفكيره اللماح وذكاء اشتهر به هذا العاهل الى استخدام هذا العراقي المسيحي الذي لابد وان يكون شخصا غير اعتيادي . فأستدعاه وبعد مقابلة وجيزة كلفه بكتابة تقرير بالفرنسية عن وضع الاقلية المسيحية الاجتماعي والامن الذي تنعم به في العراق ، قال كامل :”راجعت كتبا ووثائقا في المكتبة العامة وجئت الملك بتقرير ضاف سر به كثيرا فنزع ساعته واهدانيها ، الا اني سمعت بوفاته بعد ايام قلائل عند عودتي “.
وفي العام 1937 فاز بالاولية في اختبار التلاميذ الدبلوماسيين بوزارة الخارجية فلم يكن هناك بد من تعيينه . وكانت ابواب الخارجية وقتذاك موصدة بوجه المسيحيين . وجرى تعيينه بدرجة نائب قنصل في الهند ، وما لبث ان اختلف مع القنصل العام انذاك واضنه تحسين قدري او اخاه احمد قدري –وكلاهما صديق مقرب لنوري السعيد ومن السوريين الذين صحبهم فيصل عند اعتلائه العرش العراقي – فقد اصطدمت استقامة كامل بما اعتبره اختلاسا او سرقة ، فجوزي على أمانته بتقرير سري يتهمه بحمل الافكار الهدامة وبخطورة وجوده في السلك الخارجي . وفي العام 1939 او ربما في اواخر السنة التي سبقتها كان (كامل) من جملة من قرر نوري السعيد فصله ، وهكذا وجدته زميلا لي في كلية الحقوق .
س: اسمح لي بالمقاطعة : الشائع انه كان شيوعياً ؟
لم يكن شيوعيا ولم ينسبه الشيوعيون في اي وقت لانفسهم وربما كان بعضهم يعده من “رفاق الطريق” او هو ينضوي تحت الاسم العام الذي يستخدمونه عادة ، فيطلقون على امثاله صفة “ديمقراطي” او “وطني” تفريقا عن ” القومي” مثلا. الا انه كان من جماعة الاهالي والمشاركين في تحريرها لفترة وهو الذي قدمني اليها في العام 1943 فكتبت وترجمت لها ولجريدة الزمان . على انه فقد حريته واثقل بخمس سنوات وارسل الى سجن نقرة السلمان في العام 1950 او ربما قبلها بسبب تطوعه للدفاع عنهم في محاكمتهم الشهيرة . وبقي عضوا في الحزب الوطني الديمقراطي حتى خطر بباله ان ينشئ فيه “الجناح اليساري ” الذي ادى الى فصله من الحزب ، وكان ذلك منه وعلي الاقرار بهذا –خطا فادحا من رجل يؤمن بالديمقراطية اللاثورية او الديمقراطية الفابية الذي قام حزب العمال البريطاني على فلسفتها . واضن ان تسرعه هذا كان بسبب التيار القومي العربي الذي كان يمثله حسين جميل احد الثلاثة الكبار في ذلك الحزب . غريب عنه هذا الذي كان يعتز بأعتبار نفس واحدا من تلامذة الفيلسوف الاشتراكي الشهير ” هارولد لاسكي” . وقد ترجم له كتابه ” حقوق الانسان ” ايام الحرب بمساعدة مالية من دائرة العلاقات العامة البريطانية التي تأسست في بغداد بعد القضاء على حركة مايس ، وقد قمت بأصلاح يسير لغوي لمخطوطته على ما اتذكر .
اقتصادا في المال كنت وهو نقتني كتب الدراسة بالمشاركة ونتبادلها ونستعين على نفقاتنا في ايام الحرب بالقاء المحاضرات في المدارس الثانوية الاهلية وله الفضل في هذا ، اذ كان يوصي بي اينما حل واني ادين له بفضل باق. اذ كان اول من وجه انتباهي الى التعرف العقلاني على القضية الكوردية . وكانت مفاجأة لا عهد لقراءاتي ومتابعاتي الفكرية بمثلها من قبل عندما وضع بيدي موصيا بالقراءة الجدية : النسخة الانكليزية من (تقرير لجنة التحقيق عن رغبات الاهالي التي عينتها عصبة الامم ) بغية الفصل في النزاع على عائديه ولاية الموصل ذات الاغلبية الكردية بين تركيا من جهة وبين بريطانيا المنتدبة والعراق من جهة اخرى ، وهو تقرير لم تر ترجمة عربية له وجه النور قط .
وهداني بجانبه الى قراءة كتب اخرى وهذا جرّ الى ذاك ولم اجد نفسي في نهاية العام 1948 الا والقضية الكردية تحتل جانبا كبيرا من دائرة تفكيري لتؤدي بي الى ما تراني .

*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة