علي السباعي
-أكاد.. آسف على أيامي الماضية!
قالها. (غاندي). وتنهد ببطء مفتعل. كأنه يسعى لإخراج كل ألمه على شكل دفعات متقطعة ليوفر بطابع من التناغم الفارغ الذي يجعل صدره واسعاً، أجوفاَ كالقنينة الفارغة ليحدث نفسه قائلاً!
-في حالات كثيرة أكاد آسف على أيامي الماضية.
غاندي يجلس وحده –لكن! هنالك حسب ظني رجل يجلس أمامه يحمل صفاته نفسها إلا لون بشرته، فغاندي. –أسود العينين، أسود الشعر، أسمر قصير القامة لكن الذي يناديه كان! –أسود العينين متفحماً كأنه خيال.. ربما يكون خياله.. ففي هذه الأيام كل الأشياء متوقعة الحصول، يقول له باعتدال:
-ليت ألمي الذي أحمله بداخلي يخرج من جسدي ليكون مارداً عملاقاً!
خيال غاندي يبادره بتنهيدة ملؤها الوجع. ليقول بفخر:
-أنا المارد… أنا المك يا غاندي. سأجعلك تتخلص من كل وجعك ووساوسك بسهولة.
يصفق غاندي كفاً بكف. وكأنه ينفض عنهما سكون الموتى، وهباء كلماته الضائعة في الفضاء ليخاطبه بغضب:
-وكيف ذلك يا مجنون؟
يستوطن على خيال غاندي إحساس بالقوة، ليحدثه مجيباً على تساؤله قائلاً له:
-لأنني ألمك!!
استعاد غاندي بعضاً من إحساسه بسلامة عقله، قال كأنه ينكئ جرحاً يتدفق منه ألم الماضي ووجع المحاولة:
-أنا سعيد بذلك. إنك حقاً مارد عملاق.
يومئ خيال غاندي برأسه دلالة منه على رضائه، فيقوم الخيال بسكب مشروب (الجن) لغاندي يقول له:
-اكرع، واسترح من الماضي.
يشعر غاندي بالهدوء، وتحدث ثمة موازنة داخلية ما بين ألمه وبين ما يكرع من (الجن) فيزداد هدوؤه ويركن إلى الأمان، يقول بعدما فرغ من كأسه:
-أشكرك يا ماردي العملاق!
يتنهد خيال غاندي. وكأنه قد وفق في إرجاع القطار بعرباته إلى مساره بعدما انحرف عن السكة الحديد.
من جديد يخاطبه قائلاً:
-أتعلم أن الوجع الذي يسكنك منذ زمن بعيد، تستطيع طرده بتنهدات متقطعة لكنها عميقة.. عمق روحك؟
يبادره غاندي متسائلاً بعدما يجلس منتصباً أمامه كأنه أفعى الكوبرا:
-وكيف؟
يتنهد خيال غاندي، ويقول له بثقة المجانين:
-لأن ألمك على شكل قطارٍ ممتلئ بالألم يجرُّ وراءه مقطورات من الوجع المزمن فوق سكة الخيبة بداخلك، عندها تعمل على إخراج ألمك بتنهيدة متقطعة فإنك بهذا تعمل على إخراج وجعك عربة… عربة.
يسكب مزيداً من (الجن) في كأسه، ويكرعه دفعة واحدة يبتسم، وهو يقول:
-أحقاً ما تقوله؟
يجيبه خيال غاندي بثقة، وهو يسكب مزيداً من الجن:
-أجل!
**
كرعهم للجن أهم من اهتمامهم بعقولهم. فالنفوس البشرية تستطيع التحمل ولكنها لا تستطيع الانتظار. لأنها مهيأة للحياة لا للانتظار. فعلاً!
أصبح الكل سكارى.. الكل مجانين، وكأن هذا العالم كله مشحون بأناس يظنون أنفسهم ((غاندي))، غاندي قطار حديدي الهيكل، فارغ من الداخل… حقاً! إنه لشيء أشبه بعزف سمفوني رتيب. لكنه يصدر عن عازفين ليس بيدهم آلات، لأن الأوتار كلها قد التهمت غاندي! ينهره خيال غاندي قائلاً:
-أنت متمرد.
هنا –امتلأ فراغ غاندي بغضب على شكل جماد.. استفاق هذا الجماد وتحرك من ركوده- وكان لديه من القوة والإدراك ما يعينه على التمرد والحركة كأولئك العازفين في الهواء من دون آلات موسيقية.. فهم يعزفون لأنفسهم بأنفسهم، يقول بغضب:
-أنت كاذب، كاذب.
يرد عليه خيال غاندي، وكانت كلماته هذه المرة كأنها أوان خزفية لكونها منذ زمن على الرف تملؤها الأتربة فيأتي غاندي ويحطمها كلها:
-يا غاندي. الكل يكذب! الكل يكذب!!
يسحب قنينة الجن من عنقها يحطمها بالطاولة ممسكاً عنقها بيده، يهم على خياله هاجماً صارخاً ضارباً:
-هي… الكل يكذب.. حتى أنا… الكل!
يغرس عنق الزجاج بذراع خياله، تفتق جرح من دماء تتدفق كأنها احتضار الأنهار عند حبسها بسدود، يعالج خياله بضربة تجعل النهار يحتضر وهو ينتظر ولادة المساء.
يسقط غاندي على الأرض، وهو يصرخ:
-الكل يكذب.
***
حمل فوق أكتاف الندل إلى المستشفى وخياله العملاق ينزف ظلاماً على صاحبه –في المستشفى أخبروه أنه كان سكراناً وعمل على ضرب نفسه بعنق قنينة (الجن). أتته الممرضة لتعمل لـه إضبارة أو (ملفاً) للعلاج، وإبدال ضماداته، تقول له بدعابة مرحة:
-ألمك يا غاندي على شكل قطار ممتلئ بالألم، يجر وراءه مقطورات من الوجع المزمن فوق سكة الخيبة.
هكذا كنت تهلوس ليلة أمس.
يضحك غاندي بوهن، لتسأله الممرضة عن مهنته، فيجيبها قائلاً:
-سائق قطار.
وتسأله عن لقبه، فيجيبها وفي عينيه السوداوين ألق ما زال مبكراً فتياً:
– غاندي.