أي مسرح نريد ؟

« إعطنى مسرحا وخبزا أعطيك شعبا عظيما «مقولة كانت قد رافقتنا في مسيرة الشباب في عقدين ذهبيين إقترنا بنمو مداركنا الفكرية و أعني بذلك العقدين المبتدئين بمنتصف الستينات و حتى منتصف الثمانينات , مقولة تجسدت عظمتها على مر الزمن لا يهمني هنا لمن تنسب فهناك من يسندها للرائع « شكسبير « و هناك من يقول أن أول من قالها هو الفيلسوف اليوناني خالد الذكر « أفلاطون « .
تجسدت عظمة هذه المقولة إبان ذينك العقدين مستندة ً على تراث غني بمسرحيات جادت بها فرقة المسرح الفني الحديث في فترة ما بعد إنتصار ثورة الشعب و الجيش ضد النظام الملكي الفاسد , مسرحيات أبدع في كتابتها فنان الشعب « يوسف العاني « و نقلها للواقع على الخشبة مجموعة الفنانين التي لا يمكن لأي منصف إلا أن ينحني إجلالاً لذكرهم بعد أن غادر معظمهم عالمنا اليوم .
تراث حافل حمل لنا « آني أمك يا شاكر « التي كتبها عام 1955 وعرضت على مسرح « قاعة الشعب « إبتداء ً من 15 / 12 / 1958 و أستمر عرضها آنذاك « 18 « يوما ً و بنجاح منقطع النظير وقدم أدوارها فنانة الشعب « زينب « و الرائعتين « ناهدة الرماح « و « زاهدة سامي « و كل من « عبد الواحد طه / سامي عبد الحميد / عبد الجبار عباس / كامل الصفار / هاشم الطبقجلي / و أسامة القيسي « و أبدع في إخراجها الأستاذ القدير « إبراهيم جلال « .
و مسرحية « أكبادنا « التي كتبها عام « 1953 « و مُثِلَت ْ من قبل فتيات الإتحاد النسائي العراقي عام 1956 بمناسبة يوم « الأم « . وله أيضا ً في تلك الفترة « رأس الشليلة / 1950 « و « تؤمر بيك / 1952» . ليتحفنا هو الفرقة بروائع في العقدين الذهبين و على خشبة مسرح « بغداد « بمسرحيات رائعة و عظيمة تركت أثرها في تربية جيل واسع من المثقفين و المتابعين لها حيث ساهمت عبر ما كانت تطرحه من مُثِلْ و تعاليم في بناء شخصية ذلك الجيل و ما تركته من بصمات جميلة في البناء النفسي و الفكري له .
وصرنا نتنقل من « النخلة و الجيران « إلى « الخرابه و الشريعة « ثم « بغداد الأزل بين الجد و الهزل « و « البيك و السائق « و إنتهاء ً بـ « ولاية وبعير « و كثيرات غيرهن ساهم في تمثيلها جميعا ً و تأليف بعضها الآخر و لاتكاد تفارق مخيلتي أبدا ً شخصية « دعبول البلام « و هو يهتف بـسقوط « معاهدة بورتسموث « .
كما إننا لا يمكن أن ننسى إبداع « نور الدين فارس « الفنان الشامل لمسرحية « أشجار الطاعون « التي نشرتها « مكتبة النهضة في بغداد عام 1965 و التي تحدثت في فصول ثلاثة عن جور و ظلم الإقطاع للفلاحين في فترة العهد الملكي , كرافد آخر لإتجاه المسرح الطليعي الهادف .
و من المؤسف أن ينتقل المسرح العراقي في فترة ما بعد غزو الكويت و الحصار الإقتصادي عام 1991 إلى مسرح تهريج إلا ما ندر , ليسود بسيادة ثقافته آنذاك , حيث أجبر الكثير من الفنانين الجادين على مغادرة البلاد في ظروف الهجمة الشرسة لأجهزة النظام البائد ضد قوى التقدم عام 1978 و ما تلاها , و أجبر آخرون على المغادرة بحثا ً عن وسائل العيش الكريم في سني الحصار « المرحوم الإستاذ بدري حسون فريد « كمثال ليلاقي في غربته في « المغرب العربي « صعوبة أخرى أشد وقعا ً عليه من غربته في البلد في تلك الفترة .
أما ما بعد 2003 فلا تبدو أي بارقة أمل لصعود تيار مسرحي طليعي بعد أن فرغت الساحة للطارئين على المسرح من « مبدعي « التهريج و الفرجة و البذائة في الحوارات المرتجلة , و غياب توجه جاد لوزارة الثقافة لدعم و إحياء و تنشيط الجهود الرامية لإعادة الروح لذلك التيار الطليعي الجاد و الهادف لبناء إنسان جديد , هذا التيار الذي أقولها و كلي ثقة بأنه سيسهم في بناء أجيال مثقفة واعية لدورها في بناء الوطن و يسهم في تعرية اللصوص و السراق و ناهبي خيرات الوطن ناشري إفساد الذمم و شراء الضمائر .
و في خاتمة القول لا بد من العودة لتلك المقولة الخالدة للتكير بها دوما ً و نضيف لها قول المبدع الفيلسوف و المسرحي الفرنسي « فولتيير « :
« فى المسرح وحده تجتمع الأمة ويتكون فكر الشباب وذوقه وإلى المسرح يفد الأجانب ليتعلموا لغتنا لا مكان فيه لحكمة ضارة ولا تعبير عن أية أحاسيس جديرة بالتقدير إلا وكان مصحوبا بالتصفيق إنه مدرسة دائمة لتعلم الفضيلة « .
لنؤكد أن « الفضيلة « لوحدها هي السلاح الفكري الذي يمكن التحصن به لمقارعة الفساد بكل أنواعه , سواء كان مالي / إداري / أخلاقي / سياسي و التحصن بها لا يتم من خلال دعاة المنابر ولا من خلال ثرثرة السياسيين في محافلهم بقدر ما إنه يتم من خلال إيجاد مسرح طليعي جاد و هادف و هذه بلا شك يتوجب في مقدمة أولويات وزارة الثقافة .
عامر الدلوي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة