تجربة الإقليم

إلى وقت قريب كنا ننظر بعين الاعجاب وربما الحسد في بعض الاحيان للتجربة المبهرة في اقليم كردستان ، بعد ان توافرت لهم الظروف المناسبة منذ حصولهم على الحماية الدولية عام 1992 ، التي مكنتهم من وضع الاسس الصحيحة للبناء على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والإعلامية والاجتماعية .. الخ .. ثم جاءت بعد ذلك مرحلة ما بعد عام 2003 والانفتاح الكبير الذي شهده العراق ، وقد حقق الاقليم منافع كبيرة ومهمة في اطار العراق الاتحادي ، وكانت اولى ثمار التجربة الاتحادية هي منح الاقليم نسبة 17% من الموازنة العامة للدولة في سنوات كانت فيها الايرادات النفطية هائلة ما يعني دخول مئات مليارات الدولارات للاقليم التي كان ينبغي ان تنعكس ايجابا على مفاصل الحياة كافة من خلال انعاش الحركة الاقتصادية وتحسين المستوى المعيشي لمواطني الاقليم ، وكنا نسمع دائما بوجود الاستثمارات الكبيرة ، والكثيرون من الذين يزورون اربيل يعربون عن اعجابهم بما تشهده المدينة من عمران وتطور ، من دون النظر إلى البنى التحتية او الذهاب إلى المناطق البعيدة عن مركز الحكم ، وهذه الصورة ربما طغت على جوانب اخرى لم يكن بامكان العابرين ملاحظتها الا اذا حاولوا التعمق في واقع الحياة هناك ، وقد اثار انتباهي ذات يوم وانا في زيارة عمل إلى اربيل ، ان الناس هناك عندما ينتقدون الاوضاع السياسية ويأتي اسم رئيس الاقليم مسعود البارزاني فان الكلام يتحول إلى همس خوفا من ان تسمعهم الاذان المزروعة في كل مكان ، في مشهد يشبه كثيرا ما كان يعيشه العراقيون ابان النظام المباد ، ولكن دائما كنا نقول ، اذا كان الناس يعيشون مرفهين وفي بحبوحة من العيش فهذا يكفي ، وما دام هناك ديمقراطية فبامكان الناس ان يغيروا النظام ويختاروا الرئيس المناسب على وفق ما يشتهون ..
ولكن …. ما ان اطلت الازمة الاقتصادية بقرونها عام 2014، حتى بدأت الحقائق تتكشف شيئا فشيئا ، في بداية الامر حاول الساسة الكرد التغطية على حجم المشكلة المتفاقمة في الاقليم ولكن كل محاولاتهم ذهبت عبثا ، لان المشكلة كانت اكبر من ان يتم التغطية عليها فهي ترتبط بحياة ومصير الناس ، بعد ان لجأت الحكومة هناك إلى قطع رواتب موظفيها تحت عنوان الادخار الاجباري واكتفت بمنحهم ربع الراتب الذي لايساوي شيئا في ظل الغلاء الفاحش للأسعار ، وفي المقابل كان الاقليم يحصل على حصته من الموازنة بعد التقشف نتيجة الازمة الاقتصادية ،اضافة إلى تعاقده مع شركات نفطية عالمية وقيامه ببيع النفط من دون ان تحصل بغداد على برميل واحد ، فيما كان الدستور وقانون الموازنة السنوية يؤكدان ان النفط هو ثروة اتحادية وليس من حق اي حكومة محلية التصرف بها .. وعلى الرغم من كل ذلك فان حكومة الاقليم لم تتمكن من مواجهة المشكلة واستمر الوضع يتفاقم بنحو مرعب ، وقد باءت جميع المحاولات التي قام بها رئيس الاقليم البارزاني بالفشل والتي حاول من خلالها الهرب إلى الامام والبحث عن شماعة يعلق عليها الاخفاق وقطع الطريق امام الثورة المعتملة في النفوس ، فجاء ببدعة الاستفتاء والانفصال ، ولكنها مالبثت ان فشلت بعد رفضها من قبل ابناء الاقليم وجميع العراقيين ، فضلا عن المجتمع الدولي ، وبعد ان بلغ السيل الزبى وباتت المجاعة تهدد شرائح واسعة من ابناء الاقليم خرج الناس مطالبين بايجاد الحلول والمعالجات ، وكانت مدينة السليمانية وكلار منطلقا لشرارة الانتفاضة الكردية الجديدة، ومن المؤكد ان واقعا جديدا سيشهده اقليم كردستان على الرغم من الاجراءات القمعية الشديدة المتخذة بحق المتظاهرين التي تمثلت باعتقال أعداد غير قليلة منهم وبينهم عدد من الاعلاميين والصحفيين .
عبد الزهرة محمد الهنداوي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة