( 1 – 2 )
جيمس جيفري
من خلال استخدام نهج جيوستراتيجي يدمج الخطابات القديمة مع الوضع الراهن، يبدو أن «استراتيجية الأمن القومي» التي أطلقها الرئيس ترامب لتوّه تثير تساؤلات كثيرة تضاهي بعددها الأجوبة التي تُوفرها حول كيفية قيادة إدارته للسياسة الخارجية. فـ «استراتيجية الأمن القومي» الجديدة تُضيف نظرةً عالميةً – تعود إلى القرن التاسع عشر أكثر منها إلى القرن العشرين – على سياساتٍ تُشبه كثيراً ما كانت الولايات المتحدة تقوم به منذ عام 1940، إنّما مع التشديد على الصحة الاقتصادية والمنافسة والقوة العسكرية الأمريكية أكثر من الإدارات السابقة. والخبر السّارّ هو أن هذه النظرة تتفادى الانعزالية، في حين يبدو أنها تصحح بعض الشوائب وتُضيء بعض نقاط الغموض في السياسة الخارجية الحديثة للولايات المتحدة، سواء من خلال التشديد على المخاطر المتأتية من الصين وروسيا، أو عدم التشديد على «فعل الخير» العالمي، أو رفض فكرة أن الانتصار العالمي للقيم الليبرالية هو أمرٌ لا مفر منه.
ومع ذلك، لم تستطع «استراتيجية الأمن القومي» الإجابة على سؤاليْن أساسييْن هما: هل هناك نظام عالَمي مشترك يساهم في تقدّم أكثر من مجرّد المصالح الأمريكية، وهل يستحق هذا النظام الحفاظ عليه والدفاع عنه؟ فمن دون هذا المبدأ التنظيمي الأوّل، تغدو الاستراتيجية الكامنة وراء الوثيقة كخطة قد يؤيّدها بكلّ سرورٍ فلاديمير بوتين – الذي لطالما كان من المعجبين بنظام القرن التاسع عشر.
على عكس التكرارات السابقة لـ «استراتيجية الأمن القومي»، ثمة قناعة بأنّ «الاستراتيجية» الجديدة تنبثق عن الرئيس نفسه، مما يجعلها أكثر أهمية بكثير من تلك الوثائق التي طالما صدرت بشكل غير منتظم. فقد أثار ترامب المرشّح والرئيس مراراً وتكراراً التساؤلات حول المضمون الجوهري للانخراط العالمي الأمريكي، وأصبحت بعض وجهات نظره المعروفة رسمية وصريحة في هذه الوثيقة.
وعلى كل استراتيجية للأمن القومي أن تجيب على ثلاثة أسئلة أساسية وهي: ما هي الرؤية المحورية حول الانخراط الأمريكي في العالم؟ وما هي الأدوات والسياسات العامة التي ستُستخدَم لتعزيز هذه الرؤية؟ وكيف يختلف العنصران الأوّلان (إذا كان ذلك ممكناً) عن الوثائق السابقة الخاصة بـ «استراتيجيات الأمن القومي»؟ إن «استراتيجية الأمن القومي» الخاصة بترامب خارجة عن المألوف لدرجة أنّ الإجابة على السؤال الأول ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإجابة على السؤال الأخير.
ويمكن قراءة نظرة الرئيس القومية للغاية مباشرةً في المقدّمة: «إنّ «استراتيجية الأمن القومي» هذه تضع أمريكا أولاً». إلّا أن العديد من وثائق السياسات العامة الماضية اتّسمت بنسخة أخف وطأةً من هذه النبرة القومية ذاتها. وتشير «استراتيجية ترامب للأمن القومي» بوضوح إلى الدور الأمريكي التقليدي، معتبرة أن «قوة أمريكا لا تكمن في المصالح الحيوية الخاصة بالشعب الأمريكي فحسب، بل أيضاً في مصالح أولئك في جميع أنحاء العالم الذين يريدون أن يكونوا شركاء الولايات المتحدة، سعياً لتحقيق مصالح وقيم وتطلّعات مشتركة». فما هي المشكلة في هذه المقاربة؟
وباختصار، تكمن الإجابة في ما امتَنَعَ عن ذكره. فقد أصدرت إدارة أوباما وثيقتيْن مختلفتيْن تماماً حول «استراتيجية الأمن القومي» في عامي 2010 و2015، لكنّها حافظت على اللهجة التالية في كلتيْهما لوصف المصالح الوطنية الأمريكية الأساسية: «نظام دولي قائم على القواعد تقدّمه القيادة الأمريكية لتعزيز السلام والأمن والفرص عبر التعاون الأقوى لمواجهة التحديات العالمية». ولا شيء من هذا القبيل في نسخة ترامب. ويقول مسؤولو الإدارة الأمريكية أن لهجة «التعاون مع المعاملة بالمثل» تشير ضمناً إلى الولاء للنظام العالَمي، لكنّها ليست مساوية له.
وبالتالي، لا تبدو الرؤية التنظيمية لـ «استراتيجية الأمن القومي» الجديدة كنظرة عالمية انعزالية أو دولية، إنما كنظرة عالمية توحي بحقبة «القوى العظمى» في القرن التاسع عشر. فعلى سبيل المثال، تؤكّد هذه الرؤية أن «المنافسة على القوة هي استمرارية أساسية في التاريخ. والفترة الزمنية الحالية ليست مختلفة». فلا يجب تجاهل الدبلوماسية، لكن لا بدّ من إعادة هيكلتها «لخوض المنافسة في البيئة الراهنة واعتناق تفكيرٍ تنافسي» – وهو أمرٌ بعيدٌ كلّ البعد عن الدبلوماسية بصفتها تنظّم وتدير نظاماً عالميّاً تعاونيّاً.
وتبرز طريقة تفكيرٍ توحي أكثر بالعولمة على ما يبدو في أحد الأركان الأساسية الأربعة للوثيقة، وهي «دفع النفوذ الأمريكي قدماً»، ما يدعو إلى الإحتفاء بـ»النفوذ الأمريكي في العالَم كقوة إيجابية… لتحقيق السلام والازدهار وتطوير مجتمعات ناجحة». ومع الإشارة إلى أن العالَم معجبٌ بـ «مبادئ أمريكا»، يَعِد النص بإقامة علاقات شراكة مع «أولئك الذين يشاركوننا تطلعاتنا للحرية والازدهار» ويفيد بأن «الحلفاء والشركاء يشكّلون قوةً كبيرةً للولايات المتحدة». ثم تُقاوم الوثيقة العناصر الصريحة من الاستراتيجية العالمية التي تقدّم بها الرئيسان السابقان. فانتقاداً لإدارة بوش، تتعهد الوثيقة بأن أمريكا «لن تفرض قيمها على الآخرين»، مع التشديد على الإرادة الحرة والمصالح المشتركة بدلاً من ذلك. ثمّ تناهض أحد المواضيع الرئيسية التي تحدّث عنها الرئيس أوباما، وهي الحتمية العالمية للديمقراطية الليبرالية: «ليس هناك تطوّرٍ تاريخي يضمن أن النظام السياسي والاقتصادي الحر لأمريكا سوف يسود تلقائيّاً». وتشير مثل هذه التصريحات إلى أنه حتى المقاطع التي توحي أكثر من غيرها بالعولمة بشكلٍ معلَن تركز على الموضوع الأساسي الخاص بالمنافسة العالمية الداروينية تقريباً.