ينصرف الذهن في غالب الاحيان عند سماع كلمة ( فساد) الى سرقة الاموال بالدرجة الاساس او ما يعرف اصطلاحا «الفساد المالي» .. وهو الى حد ما انصراف ذهني يقترب من الواقع اذا ما اخذنا بنظر الاعتبار ان هذا النوع من الفساد يمثل الاس الحقيقي للأصناف الاخرى من الفساد ، وهو يحتل الرقم واحد في اعلى السلّم الهرمي للفساد ، لاسيما في العراق الذي حطم ارقاما قياسية في هذا النوع ، وان كانت هناك دول اخرى قد لاتقل منافسة لنا في هذا الشأن ، ولكن الفرق بيننا وبينهم هو انهم يعملون على وفق مبدأ « ان الله يحب الساترين» !! .. اما نحن فنعمل وفقا لمبدأ» الشفافية في كل شيء» فليس لدينا مايمنع من ممارسة الشفافية حتى في مجال السرقة والفساد ، فهناك من يتحدث بتفاخر عن حجم الاموال التي تمكن من الاستحواذ عليها عبر طرق السرقة والفساد من دون خشية الملاحقة القانونية من باب «ان الدينار اقوى من القانون « ، كما كان يردد المرحوم مدني صالح !!..
المهم في الامر وما اردت ان اشير اليه هنا هو ان الفساد لم يعد مجرد استغلال هذا المسؤول او ذاك السياسي لحالة وجوده في السلطة او العملية السياسية لتسخير امكانات الدولة لمصالحه الشخصية ، وان كانت هذه هي السمة الابرز للفساد مع عدم تطبيق مبدأ « من اين لك هذا» .. وفي حال تطبيق هذا المبدأ فان الاجابة ستكون جاهزة : «هذا من فضل ربي»!! فينجو الفاسدون من « القايش» ! …. الفساد اصبح منظومة اجتماعية متكاملة تضرب في جميع مفاصل الحياة من خلال سلوك الناس في حياتهم اليومية ، وبالتالي فان خطة مكافحة الفساد يجب ان تكون بعيدة المدى تأخذ بنظر الاعتبار الاهتمام بالنشء الجديد من خلال المناهج الدراسية والتعليمية ، وهذه المناهج تؤشر لانواع السلوكيات الاجتماعية غير الصحيحة واليات معالجتها سلوكيا وفكريا وثقافيا .. فالذي يقوم بحفر الشارع من اجل مد انبوب الماء من الجانب الاخر ، هو فاسد ، ومن يقوم ب»التجطيل» الكهربائي من المحلة المقابلة ، فهو فاسد ، ومن يقطع الرصيف لتوسيع بيته هو فاسد ، ومن يرمي النفايات من نوافذ سيارته الفارهة فهو فاسد ، ومن يسير عكس السير فهو فاسد ، ومن لايلتزم بالاشارة المرورية هو فاسد ، والموظف الذي يقضي معظم ساعات عمله «تسخيتا» او يقتطع ساعتين «للريوگ» او يصر على تسويف وتأخير معاملات المواطنين ويسعى لابتزازهم بأي طريقة فهو فاسد ، وبائع الخضر الذي يخلط السيء بالجيد ويبيعه بسعر الجيد هو فاسد ، والمزارع الذي ترك ارضه وهي صالحة للزراعة وبامكانه زراعتها فهو فاسد ، والتاجر الذي يستورد السلع الرديئة مستغلا حاجة الناس والسوق فهو فاسد ، والمقاول الذي يتسلم سلفة المشروع و»يطفر» فهو فاسد ، ومن يساعده على ذلك فهو فاسد … الخ الخ .. فثمة الكثير من السلوكيات الفاسدة التي بات مَن يقوم بها يعدها شطارة لان « العيش يحب الخفية»!! ، وان «لم تكن ذئبا اكلتك الثعالب»!!.. ومن المؤكد ان مَن تسهل عليه ممارسة هذه السلوكيات الفاسدة لديه الاستعداد للقيام بما هو اعظم منها ، ومن هنا سعى الفاسدون الكبار الى التسابق فيما بينهم لجمع اكبر مايمكن جمعه من مغانم من خلال وجودهم في مراكز مهمة ، لدرجة ان بعضهم لم يعد يشعر بالحرج عندما يعلن عن مقدار ثروته التي جمعها مستغلا منصبه ، وهذه هي الكارثة الكبرى التي المّت بالوطن وتركته يترنح ، ولم تشفع له كل امواله الطائلة التي دخلت خزائنه على مدى عقود من الزمن لانها لم تذهب لبناء الوطن ، انما ذهبت الى الجيوب الخاصة..
خلاصة القول ان مهمة مكافحة الفساد ليست سهلة على الاطلاق ، فالامبراطوريات التي اسسها الفاسدون تحتاج الى خطط محكمة لاختراقها ولابأس ان تبدأ هذه الخطة بضرب الرؤوس الكبيرة ، لان. الايقاع بالرأس يعني انهيار الامبراطورية بكاملها فيسهل الامساك بجميع المتورطين .
عبدالزهرة محمد الهنداوي
الفاسدون : هذا من فضل ربي !
التعليقات مغلقة