خصخصة الثقافة

يدور جدل حاد هذه الأيام حول خصخصة قطاعات خدمية أساسية مثل الكهرباء والماء والنفايات في البلاد، بعد أن عجز القطاع الحكومي عن الإيفاء بمتطلباتها، وتحسين أدائها، والتقليل من الأزمات التي تعصف بها.
ومن الطبيعي، مثل أي تجربة جديدة، أن يتطير الأهلون منها، ويتخوفوا من عواقبها. ومن حقهم أن يذرفوا الدموع على أيام كانوا لا يدفعون فيها من جيوبهم إلا القليل.
وليس غرضي هنا إعادة اجترار هذا الملف بعد أن خرج الناس إلى الشارع للإطاحة به. ولا أعلم على وجه القطع إن كان فيه خير أو كان فيه شر، أو كان الناس محقين في رفضه أم لا! ولكنني أعلم على وجه اليقين أن الثقافة سبقت سواها من القطاعات إلى الخصخصة، وتخلصت في وقت مبكر من نفوذ الموظفين الحكوميين.
ولاشك أن هذه الثقافة كانت تناضل في عهود مختلفة من أجل أن تكون حرة مستقلة. ولم يكن يسرها أن تقبع تحت عباءة السلطة أو الحزب الحاكم!
ولكن هل كانت هذه الخصخصة ناجحة، إلى الدرجة التي تبرر الحرص على الفوز بها بهذه السرعة. وهل استطاعت أن تنهض بقطاع الثقافة، وتدفع به نحو الأمام، طوال هذه المدة؟
شخصياً لا أظن أنها أصابت في ذلك، أو حققت أهدافها، إلا قليلاً. فقد نالت الثقافة استقلالها بكل تأكيد. ولكنها فقدت الكثير من حيويتها بسبب هذه الخطوة. وبات أصحابها يعانون الأمرّين من الإعراض والفاقة والبطالة.
لقد كان الفنانون ورجال السينما والمسرح والتلفزيون موظفين حكوميين، يؤدون واجباتهم بكل حرفية. وكان المؤلفون يصدرون كتاباتهم على نفقة الدولة، ويتقاضون عنها أجراً. وبهذه الطريقة أنتج الكثير من الأعمال الفنية الجادة. وخرجت آلاف الكتب إلى النور.
وكانت الثقافة العراقية تترسم في ذلك خطى مصر الناصرية، التي نهضت بعبء الحركة الفنية الملتزمة، فأنشأت المسرح القومي ومؤسسة دعم السينما، وقامت بحركة نشر غير اعتيادية في ستينيات القرن الماضي، مثل مشروع الألف كتاب، وسلسلة القصة، والمسرح العالمي، فقدمت بذلك خدمة عظيمة للجمهور.
صحيح إن هذه الأعمال كانت تمر عبر الرقابة، وتتعرض للمنع والمضايقة. وكان العديد من صناع الثقافة مبعدين عن الأنظار. إلا أن زوال هذه المظاهر ربما تمكن من تصحيح الوضع، ومراجعة الأخطاء، من دون الحاجة إلى الإلغاء التام.
لقد تعرضت الثقافة للخصخصة قبل الكهرباء والنفايات والصناعة والتجارة، ولكن أحداً لم يرفع صوته بالاحتجاج، بسبب الرغبة في حمايتها من الهيمنة الحكومية. فهل ماتزال تصر على ذلك إلى النهاية أو ستقوم بإعادة النظر فيها، بعد ما تبين أنها خسرت الكثير؟ وهل سينضم أفرادها إلى الاحتجاجات الشعبية الرافضة لخصخصة القطاعات الخدمية الأخرى أو ينتظرون ما تأتي به الأيام؟
محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة