في حوار مع الكاتب المسرحي العراقي علي عبد النبي الزيدي:
حاوره ـ عبد العليم البناء:
تتواصل التدريبات اليومية للفرقة الوطنية للتمثيل، التابعة لدائرة السينما والمسرح على مسرحية جديدة عنوانها (باب الحوائج)، تأليف الكاتب المسرحي علي عبد النبي الزيدي، الذي حلق في فضاءات المسرح العراقي والعربي بنصوصه، منذ أكثر من عشر سنوات عرفه المسرح العربي.
قدم المسرح العربي عشرات العروض الخاصة بمؤلفات الزيدي المسرحية، وراح الدرس الاكاديمي ينتبه له ولمشروعه في (الالهيات)، و(مابعد الالهيات)، ورؤيته للمقدس، ولتوابعه، والجرأة والوضوح الشفاف في تناول وكسر التابوهات التي تجذرت في العقول، والنفوس، وترجمة لهموم وتطلعات المواطن أينما يكون، وبمعالجة غير تقليدية، تتجاوز المألوف، وتغادر منطقة الشعبوي، الى أفق ثقافي مسكوت عنه، حرّكه الإرهاب، أو قِوى الموت، أو أي مهيمن آخر، بعد أن كان ساكناً الى حد بعيد، سيما أنه على صعيد العنوان. (باب الحوائج) غير معني بما هو مألوف، بالرغم من إنه ينطلق من مشروع نصوص ما بعد الإلهيات، أي الاشتغال مع المقدس، ولكنه في هذا النص يذهب الى زاوية نظر أخرى، لا تحفل بما هو مذهبي كما يتصوره البعض، بل تذهب لما هو انساني بالتأكيد.
يخرج المسرحية غانم حميد، ويلعب ادوارها قامات ابدعت على طول خط اشتغالاتها عراقيا، وعربيا، وفي مقدمتهم الدكتورة شذى سالم، وبمعيتها كل من الفنانين محمد هاشم، وشيماء جعفر، وفاضل عباس، وبغية الوقوف على أبعاد وحقائق هذا النص الاشكال شكلا ومضمونا.. كانت لنا هذه الجولة من الحوار مع مؤلف النص الكاتب علي عبد النبي الزيدي.
اننا امام اسم لنص جديد، ربما يراه البعض ونحن منهم نصا اشكاليا، نسبة لعنوانه (باب الحوائج) ما الفكرة التي ينطوي عليها؟
– أرى أن العنوان هو (مشهد أول) في أي نص مسرحي أكتبه، ولا يمر العنوان مرور الكرام عندي على الإطلاق، هو جزءٌ من قلقي المستمر، حتى أنني كثيرا ما أغيِّر عناويني، وأعتقد ان ذلك فيه شيء من الجنون الذي ينتابني دائما مع التفكير بعنوان لهذا النص أو ذاك. تستفزني العناوين بنحو صارخ، وأحلِّق معها بعيدا.. حتى أجدني أكتب نصا مسرحيا منطلقا من فكرة العنوان.
أنا رجل مسرح على طول خط الـ 24 ساعة التي أعيشها في اليوم، ولا أغادر هذه المنطقة حتى في أحلامي، لذلك تراني أُستفز بنحو لا يوصف عندما أعثر على عنوان لنص مسرحي مقبل أفكر فيه، و(باب الحوائج) هو عنوان يغادر منطقة الشعبوي، الى أفق ثقافي مسكوت عنه حرّكه الإرهاب، أو قِوى الموت، أو أي مهيمن آخر، بعد أن كان ساكناً الى حد بعيد، وهو هنا – أي العنوان- غير معني بما هو مألوف، بالرغم من إنه ينطلق من مشروع نصوص ما بعد الإلهيات، أي الاشتغال مع المقدس، ولكنه في هذا النص يذهب الى زاوية نظر أخرى، لا تحفل بما هو مذهبي كما يتصوره البعض، بل تذهب لما هو انساني بالتأكيد.
بعض نصوصك السابقة ينطوي على جرأة متناهية فما الذي يميز هذا النص عن نصوصك الاخرى؟
– مشروع هذا الكاتب الذي خرج من معطف جنوبي العراق، الناصرية تحديدا مازال قائما، وفي كل نص لي، تصوراتي مع مفردة (الجرأة) في قراءة الواقع الذي أعيش فيه مرغما، وأقول مرغما لأنني أتطلع لفكرة الخلاص من خلال (الانتحار)، وغلق ملف هذا الكاتب المزعج الى الأبد، لأنني-هنا- أجد الانتحار فرصة للحياة بنحو أفضل، وأكثر سعادة، وربما هناك في مكان ما سأفكر بنحو أفضل وأهدأ، بكتابة نصوص مسرحية أرسلها مع أي شخص نازل للأرض.
أزعم بأنني كثير الأسئلة، ولا أجد اجابات ساخنة يمكنها أن تجيب على أسئلة هذا الرافض للحياة، أميل لفكرة أن أرى الحقيقة كما هي ما بعد الوجود، لذلك فان المحاولات لكسر التابو عندي بكل توصيفاته، تنطلق من فكرة كاتب المسرح، الباحث عن إجابات، يمكن لها أن تضع ماءاً باردا على قلبه، ومثلما كانت هذه الجرأة موجودة مع ما أسميه بـ (استدعاء المقدس) في الكثير من نصوصي.. أجد في نص (باب الحوائج) امتدادا طبيعيا لهذه الجرأة التي يراها البعض قد فتحت الابواب على افكار جديدة في مسرحنا العراقي، ولن تغلق لزمن طويل، وجعلتنا نناقش قضايا كبرى تنسجم مع الكوارث التي لحقت بنا منذ عقود من الزمن.
نصوصك تثير الكثير من الجدل غير المألوف، فهل تعاونك مع المخرج غانم حميد من هذا المنطلق؟
– كنتُ منذ زمن أقول وبتواضع بأن نصوصي تحتاج الى مخرج (مفكّر) يذهب بها بعيدا وفضاءات مفتوحة الأفق، وقد تعاملت مع مخرجين عراقيين وعرب رائعين، ولكن أن تجد هذا المفكّر، ربما يضعني أمام عدد قليل منهم عراقيا وعربيا، وقد حققوا حضورا مهما يتذكره الجميع، المخرج غانم حميد من هذا الطراز بكل ما تعنيه الكلمة، وقد حضرت العديد من البروفات على نص (باب الحوائج)، ووجدت لديه فهماً أدهشني وعلى قدر كبير من الأهمية لهذا النص، وراح يشكل حفرياته بنحو استفزني، وأنا المؤلف، بل وكسر عندي المتوقع، ومن هنا أجده فعلا مخرجا مفكّراً، يريد أن يقدم مشروعه الخاص به بعيدا عن هيمنتي كمؤلف، المبدع غانم حميد يُدرك تماما أن عليه أن يخلق جرأته هو أيضا على وفق سياق، سيكون صادما للمتلقي كما أرى، وأشعر بسعادة وفخر أنني أتعامل مع مخرج بثقله وبروحه العاشقة.
وهذا الامر يقودنا لطاقم التمثيل الذي يشمل قامات ابداعية متنوعة ورصينة تنتمي لأجيال مختلفة؟
– ملاك مسرحية (باب الحوائج) قامات مشرقة ومبدعة على طول خط اشتغالاتها عراقيا وعربيا، الدكتورة شذى سالم، رمز ثقافي يعيش في ذاكرة اجيال متعددة، وما زال في قمة عطائه، هي مفعمة بالجمال والحيوية، ومتناغمة مع اجيال ابداعية أخرى، جاءت بعدها بسنوات، ستمثل دورا جديدا – كما أزعم- في افكاره وتصوراته، وهو خارج عن سياق الكثير من أدوارها، وهذا هو سر ابداع هذه الفنانة والمتجددة.
الفنان الرائع محمد هاشم ينطلق في دوره الى مناطق لم يعهدها المتلقي عليه، وأجزم بأنه وصل الى تصورات مدهشة وقراءة واعية لهذه الشخصية المركبة التي سيمثلها بجرأة، الأمر ينسحب على الفنانة شيماء جعفر التي أراها في شخصيتها الجديدة باذخة الجمال والجرأة معا، وتدرك أن عليها ان تقدم شخصية استثنائية مع شخصيات استثنائية أخرى، تمثلها دكتورة شذى سالم، ومحمد هاشم، هذا الاستثناء هو الذي سيشكل شكل عرض باب الحوائج، ومع وجود خادم العرض كما يطلق عليه المخرج غانم حميد، الفنان المثقف فاضل عباس، الذي سيكون بمنزلة مشعل للحرائق، والمحرك للقضايا الكبرى في العرض، وحقيقة أنا أعشق أداء هذا الفنان الذي مثل في مسرحيتي(مطر صيف)، واخرجها الجميل كاظم النصار، وقد قدم أحد ادواره المهمة التي ستظل بذاكرتي، وأيضا هناك الفنان احسان علي، سيكون مشاركا مهما ومفاعلا في روح هذا العرض.
وما الرسالة التي تريد ايصالها عبر هذا النص شكلا ومضمونا؟
– لست مصلحاً أبدا، بل أنا ايضا احتاج الى إصلاح يعالج المناطق المعطوبة في روحي، وأقول مصلحا لأن البعض يريدني هكذا أغرق بالشعارات، والخطابات، والنهايات السعيدة، ما يهمني ككاتب مسرحي في هذا النص وغيره، أريد أن أفكك شكل العلاقة مع المقدس بشتى تسمياته، وبناء علاقة جديدة تُدرك اهمية الفعل الانساني بعيدا عن هيمنة واطار المقدس، الذي يريد أن يجعل منا مجموعة من المخدرين في حياتنا ليس إلاّ، ولا قدرة لنا على تغيير حالنا من خلال مواجهة مشكلاتنا الكبرى، ومن هنا اردت التصريح أن النص لا يطرح حلوله بقدر ما يريد منا أن نواجه، ونكون أقوياء بوجه كل القوى التي تريد إلغاء وجودنا.
اذا كان الامر كذلك فما الذي تراهن عليه في (باب الحوائج)؟
– أراهن على قدرة هذا النص على الاختلاف في شكل النصوص العراقية اليوم التي تناقش مشكلات الواقع وهو امتداد لنص (يا رب) الذي أخرجه المبدع مصطفى الركابي، لذلك الرهان صعب جدا مع هكذا نصوص، لأن صورة التلقي قاتمة عندنا، وغير معبدة بالأزاهير، هذه الاشكالية في نصوص الالهيات عموما التي أذهب معها برحلة طويلة، وحوار محتدم مع المقدس في سبيل تصحيح الكثير من المفاهيم في شكل العلاقة، التي تريد منا ان نكون مخدّرين، وفي غيبوبة طويلة أمام هول ما يحدث لنا يوميا، وألا نتحوّل الى (شكليين) في علاقتنا مع المقدس.
تنوعت تجارب كتاب المسرح العراقيين وبات خطابك المسرحي يجتاز حدود المحلية الى العربية كيف تنظر الى الأمر؟
– أنا جزء من تجارب الكتابة للمسرح في العراق، وافتخر بهذا التوصيف النقدي، وهذا التنوع الذي ذكرته في سؤالك هو الذي خلق لنا أسماء متعددة ومهمة في الكتابة، شكلت ظاهرة التأليف عندنا، وربما منذ أكثر من عشر سنوات عرفني المسرح العربي، وقدم لي عشرات العروض، وراح الدرس الأكاديمي عربيا هو ايضا ينتبه لي. طبعا نحن هنا في العراق لدينا امكانيات هائلة وممتازة في (كسر) قلم المبدع، ومهما كان كبيرا، سنحاول تصغيره، وتحجيم إنجازاته، وهذا ينطبق على الكثير من مبدعي الوطن، والى اليوم ليس هناك من قانون يجعل مبدعنا العراقي متفرغا للكتابة، أو لفنه بوصفه ثروة وطنية.
وبعيدا عن التعظيم والتأصيل أجدني محظوظا من بين كتاب المسرح لهذا الاحتفاء العربي بنصوصي، بالرغم من أنني ما زلت أومن بفكرة البحث والكشف التي أراها ماثلة أمامي، وهي عنوان مهم ومن العيار الثقيل في حياتي ككاتب مسرحي، وهذه الرحلة التي تمتد لأكثر من ثلاثين عاما، تجعلني دائما أن أكون بين الناس البسطاء، وأناقش قضاياهم بطريقتي الخاصة، وهذا هو الأهم كما أجزم.
وهل يعني ذلك المضي بالخطاب المسرحي ليكون أكثر قربا من الانسان في كل زمان ومكان؟
– هذا الموضوع يؤرقني كثيرا، وهو كيف تكون بكتاباتك قريبا من أنفاس الناس وأوجاعهم، مع عدم التنازل عن أفكارك، ورؤاك، ومشروعك، لذلك تجدني في نصوصي واقعياً، ولكنها الواقعية الخاصة بي، أو التي أراها هكذا الأكثر قدرة على الاقتراب من شرائح كثيرة في مجتمعنا، هذه النصوص تذهب في أساليبها الى مناخات غرائبية ربما، أو فيها شيء من اللامعقول، أو اشتغالاتي مع المقدس، ولكنها في نتائجها الأخيرة هي الواقعية التي أريدها التي تغرف من مشكلات الواقع بتفاصيله الكثيرة، لأنني أرى أن الأفكار العظيمة، تجعلك الأقرب الى الناس، وملتصق بهمومهم وتطلعاتهم، ويأتي العرض ليعزز هذه القيمة، خاصة مع مخرجين كبار، يدركون تماما أن هذه النصوص يمكن التحليق معها عاليا.
في ضوء هذا كله.. ما الذي تتوقعه لـ (باب الحوائج)؟
– مسرحية باب الحوائج .. نصا وعرضا سنعيش معها اختلافاً كثيرا ومحتدماً في موضوعة التلقي، لأنني أقول دائما أن هذا المشروع يحتاج الى ردود افعال غير منفعلة، هادئة، تستطيع ان تستوعب ما يحدث أمامها من أفكار وطريقة التعبير عنها، وبعد ذلك يمكن لها أن تكوّن رأياً نقدياً بما شاهدت.. ولكن هذا الأمر لا يتوفر عادة عندنا عربيا اوعراقيا، إلاّ عند القلة القليلة من المتلقين، هذه حقيقة أعتقدها أزمة صاحبت نصوصي وعروضها، بل راح البعض يكتب سطرا واحدا امام جهد فكري وجمالي استمر لأشهر طويلة، منطلقا من ردود افعاله المنفعلة، لذلك لن استغرب أننا سنواجه اختلافا في وجهات النظر، وهناك من سيرفض هذا العرض جملة وتفصيلا، لأنه سيعتقد بأنه يريد تهديم التابو الذي يؤمن به تماما، والبعض الآخر سيجده فتحاً على مستوى النص، وشكل العرض الذي أراده غانم حميد صادما لهم، وجهات النظر المتنوعة هذه، هي التي ستصنع حواراً يمكن أن يجعلنا نصل الى نتائج هادئة ومهمة لمسرحنا العراقي.