(سُبّة).. اقصوصة

صباح الجاسم

ما لَبَثَ على اصرارهِ فضولاً في حصولهِ على النقود . له اسلوبُه في انتزاعها بالطريقة التي تعوّدها. إنْ مانعَ احدُ البقالين او اصحاب الدكاكين ، يثورُ صارخاً وإذا ما ابدى صاحبُ العَطايا تجاهُلَه صارَ يُمزّق زيّقَ دشداشته الرثّة حتى ينالَ ضالتَه.
عند حافة النهار يجلسُ مادّا ساقيه المتورّمتين على رسلهما من ثم يمارسُ طقوسَهُ اليومية، حتى يندهشُ عابرو السبيل لمشهد اكوام ورق النقد الممزقة بحسب فئاتها النقدية!
فجر صباحات مدينته الصغيرة الغافية على ضفاف نهر الفرات تجتمعُ ناقلات الجنود لتبتلعَ المتطوعينَ المُساقين من دفء بيوتهم صوب مَهمّةِ حصاد القصب في اهوارٍ مضرّجةٍ بالجراح.
يقفُ (عبيد المطر) امامَ مدْخَل منظمة الحزب لامّا بقبضة يده المتقرنة على مقدّمةِ كيسٍ فارغ للطحين ، فيما يقبضُ بالكفّ الثانية على الريح كمن يجمعُ لُقىً. يفعلُ ذلك على عُجالة من ثم يهمُّ بحمل كيسَيهُ على كتفه وينكصُ مهموماً كمن يتجنّب نباحَ كلبٍ اعترضه. ما أنْ يصلَ ضفةَ نهرِ مدينته حتى ينفُضَ كيسَه من محتواه ويطويه بتأنٍ وعناية.
وإنْ ينتبه احدٌ من ذويه أو عابرُ سبيلٍ متسائلا عما يفعله يلتفّتُ وفرحةٌ تملأ شدقيه المُرَهولين :
«اجمعهم هنا وألقي بهم هناك «.
على أنّ سرعانَ ما تَحَققَت نبوءة (عبيد المخبول)، فاحتلت المقر جماعاتٌ بجهامات وأشكالٍ شتّى.
استبشرَ القومُ وفرحوا بانفعال غير مصدقين وهم يمتدحون ويثنون على (عبيد المطر) شجاعته ودقّة حدسه تعبيراً لما اجترحوه من مصائب سَبَقهم لبيانها في احتجاجه الأخرس، وقد عجبوا كيف فاتتهم نبوءة الفعلِ العجيب الذي تلبّسَ الشبحَ العجوز، متيقنين أنّ الحقيقةَ ربما تحطُّ على هامةِ رجلٍ مخبول.
عقدٌ من السنين مرّ على تلك الواقعة، بدت الأوضاع على غيرما توقّعَ الناسُ وأمِلوا.
صاروا يتابعون (عبيد) وهو يحمل الكيس ذاته يأتي به مملوءاً من حافة النهر خلافاً لما كان يفعل، ثم يشرعُ بانزالهِ امامَ مقرّ الوافدين الجُدُد في المبنى ذاته المُحاط بشعاراتٍ برّاقة واعلامٍ وراياتٍ صُفرٍ وخضرٍ باذخة الترف فيبدأ بإفراغ ما في الكيس بطريقة إيمائية ملقيا ما يقبض عليه من داخل الكيس ليقذفَ به عَبْرَ مدخل المبنى القديم.
ما أن يوجّه أحد المقيمين من ذوي اللحى الكثّة فوّهةَ بندقيته تجاهه حتى ينكصَ مهرولاً بكيسهِ صوبَ جهةِ النهرِ تحتَ وابلٍ من شتائم وتعاويذ لا يعْلَقُ منها في ذهنه سوى نعتُه بالمشعوذ الفاسد والخَرِف الماكر اللعين!
على أنّ القومَ صاروا يتشاورون ويتنادون ويتضامنون ، ناشرين أكياسهم الجديدة وعليها كتاباتٍ تُنْذِرُ بالعقابِ والمحاسبة الشديدة. صار صوتُ ( عبيد مطر ) ينادي ويصرخ من أربع جهاتٍ من دون أنْ يراهُ أحد.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة