حيدر جمعة العابدي
لم يعد السرد ذلك المنتج المعني بإظهار الجانب الأدبي والجمالي فقط في الأجناس الأدبية التي تدخل ضمن إطار ما يسمى بالسرد ؛ الرواية والقصة والشعر والمسرح بل أصبح بفعل التحولات التقنية والفكرية الحاصلة ، بنيةً ذات مستويات متعددة ومختلفة تضم بين دفتيها العديد من الموضوعات المتباينة والمختلفة فنياً وفكرياً ، مثل: الفلسفة والشعر والموضوعات النفسية والاجتماعية والتاريخية والسياسية، بحكم المرونة والحرية التي تمتاز بها طبيعتها الفنية والموضوعية كطول نفسها السردي وزمنها الحكائي، وهو ما دفع أغلب كتّابها إلى تكسير أشكال وأنماط الوعي السردي التقليدي والتغريد خارج أطار الحدود والثوابت المرسومة له( حبكة ،شخصية ،زمكان ،أحداث ).
تمثل رواية (حمّام اليهودي) للروائي علاء مشذوب الصادرة عن دار سطور- بغداد لسنة 2017 واحدة من الروايات التي تعتمد مستويات متعددة في بنائها السردي، حيث تقوم هذه الرواية على بنيات سردية متباينة ومتداخلة في ما بينها ، من خلال بناء أحداثها ، ورسم شخصياتها ،وتراكيبها اللغوية والتقنية، من خلال اعتماد تقنية التداخل والمجاورة ما بين الأجناس والحقول المعرفية والثقافية الأخرى.
ظهر تعدد المستويات من خلال أساليب سرد متباينة من حيث الشكل الفني والنوعي ومتجاورة ومتساوقة من حيث الهدف والموضوع ،أي اعتماد رؤية وخطاب سردي ذي أهداف شاملة، وهو ما يؤشر على بزوغ وعي سردي عراقي متقدم يسعى لتجاوز الحالة القارة والثابتة التي تحكم العمل السردي ضمن جنس معين محكوم بقوانين ثابتة إلى حالة جديدة ومختلفة تعتمد التفاعلية والتداولية كإطار ثقافي عام ما بين الأجناس المختلفة، وهو ما أسهم في إعطاء سمات جديدة وشكل ورؤية جديدة للرواية العراقية ما بعد 2003 .
يتشكل الفضاء السردي على وفق ثلاثة مستويات نسقية تتباعد ضمن حقولها لكنها تتشابك وتتّحد في مضامينها وأبعادها الفكرية، وهو ما تسعى لإظهاره هذه الورقة عبر كشف أبرز المهيمنات النسقية، الفكرية والفنية في رواية (حمّام اليهودي) بنحو خاص والرواية العراقية ما بعد 2003 بنحوعام .
المستوى الأول: التوثيقي والأرشيفي
هو المستوى الذي يمثل الوجه المعلن والواضح والمهيمن على مجمل الفضاء السردي في الرواية، حيث تبدأ الرواية باستهلال يلخص من خلاله المؤلف زمن الرواية وطبيعة حياة بطلها الوحيد الذي يقوم بسرد حكاية أبناء طائفته (اليهود) وحياتهم في العراق وأعمالهم وطريقة عيشهم وتجارتهم وطقوسهم ورؤاهم السياسية والتاريخية وأماكن سكناهم وشكل وطبيعة علاقتهم بالآخر العربي وغير العربي والمسلم تحديداً، وأبرز آثارهم التي تركوها خلفهم بفعل التحديات والتحولات السياسية في العراق (هذه الرواية تحكي قصة اليهودي يعقوب شكر الله دانيال وعائلته وهو الذي فضل الهجرة الى متصرفية كربلاء بدل اسرائيل … بدأت أحداث الحكاية في نهاية عام 1918 وانتهت بعد أكثر من عقدين ) ص6. كما نجد في هذا المستوى توثيق الأسماء والأماكن والأسواق والمهن والعملة والزي المحلي والطقوس الدينية والعادات التي كانت تشتهر بها متصرفية كربلاء والتي قد اندثر الكثير منها اليوم.
المستوى الثاني: الأدبي والفني
هو المستوى الذي يرتبط بتمثلاته الفنية والجمالية داخل النص، خصوصاً في تقنية بناء الشخصيات، ومنها شخصية بطل الرواية الذي تمكن المؤلف من الإمساك بأبرز سمات الشخصية اليهودية وفي أدق تناقضاتها واستطاع أن يكشف عن صراعاتها النفسية والاجتماعية الداخلية، وردود أفعالها الخارجية من حيث القوة ،والضعف، لدرجة إننا لا نشعر أبداً ونحن نعيش ونراقب طريقة تطورها أننا أمام شخصية غير حقيقية، أي شخصية(ملفقة ) او مفتعلة، وهو ما يحسب لبراعة المؤلف، كذلك نجد هذه التمثلات في صورة المكان المعيش عبر تقنية المكان المتخيل (الحمّام) الشوارع والأزقة المندثرة والذي أعاد تشييدها السارد ببراعة معتمدا ذاكرة متخيلة، وهو ما أعطى زخماً فنياً مميزاً من خلال قدرة الكاتب على جعل معمارية المكان تنفتح على ما قبل وما بعد، وهو ما يعزز من دور المتخيل الفني والادبي للمكان، كما تعكس قدرة الكاتب على الولوج عميقاً داخل المخيال الجمعي من أجل رسم طبيعة المكان في تلك الحقبة وعكس طبيعة حياة ساكنيه وتصوراتهم وانطباعاتهم اتجاه المكان المعيش، وهو مستوى يتوزع داخل فصول الرواية على وفق تطور بياني صعوداً، وهو ما تجلى عبر دقة رسم الشخصيات وأبعادها النفسية والاجتماعية ومعمارية المكان من جهة – ونزولا باعتماد المؤلف على تكرار الصيغ الوصفية والتوثيقية التي تميل إلى رصد حقيقة الأثر المكاني والثقافي وأبعاده التاريخية أكثر من الأثر الجمالي المتخيل ( فكرت أن أذهب إلى خارج سور المدينة عسى أن أجد لي دكاناً في منطقة العباسية التي تفاجأت بشوارعها المستقيمة والواسعة والمتعامدة وطراز عمارتها الهندسي البديع ،هذه المنطقة التي أستحدثها الوالي مدحت باشا بعد زيارته لكربلاء )ص36.
كما أن اعتماد الصوت الواحد أو السارد العليم كلي العلم جعل من طريقة سرد الأحداث تتخذ شكل الأسلوب السير ذاتي، وهو صوت بطل الرواية الوحيد يعقوب شكر الله يسرد حكايته الشخصية ، وهو ما عزز من الجانب التوثيقي أكثر من غيره حتى أننا نجد اعتماد لغة الوصف المباشر او ما يسمى بتقنية الكاميرا للأسواق والمهن والطقوس قد تكررت في أغلب مفاصل الرواية وكأننا أمام جرد وتوثيق للمهن والطقوس وأنماط العيش السائدة آنذاك، إضافة إلى دخول حكاية قرة العين بشكل مفاجئ – خارج سياق الأحداث التي ترصد حياة اليهود الاجتماعية والسياسية، أسهم ذلك في إبطاء الزمن السردي لحركة الأحداث وشتّت صورة الأحداث حتى لو كان ذلك ينسجم مع الهدف السردي (كربلاء مدينة التعايش) لكن وبنحو عام تمكن المؤلف من تدعيم وترسيخ البعد الجمالي والفني (أدبية ) النص.
المستوى الثالث: الفكري والثقافي
هو المستوى الذي تبثُّ من خلاله الرواية أسئلتها السياسية والثقافية التي تأجلت الإجابة عنها بفعل الصراعات العرقية والدينية ما بين الأديان والثقافات في تلك المرحلة التاريخية من العراق والتي تحولت بفعل الاحتلال والأطماع الإقليمية للدولة العثمانية والدولة البريطانية إلى بؤرة للصراعات والتقاطعات ما بين اليهود الأقلية والمسلمين الأكثرية من صراع رمزي ديني (الطهارة والنجاسة المرتبطة في دلالة حمّام اليهودي الذي ظل مثار جدل ديني لدى المسلمين حول حرمة الاغتسال في الأماكن التي يديرها اليهود حتى اضطر يعقوب شكر إلى تأجيره وبيعه لعدة مرات برغم تعلقه به) إلى صراع سياسي وثقافي هوياتي، حيث أثارت قضية تسليم جزء من فلسطين لليهود حساسيات تاريخية حول الوطن القومي والديني والذي بدوره أثار سؤال صراع الهويات الطائفية والعرقية والدينية الذي ابتلي العراق به قديماً وحديثاً، وهو ما يرسم شكل العلاقات الظاهرة والمخفية (المضمرة) داخل اللاوعي الجمعي لمكونات الشعب العراقي وهو يبرر نظرتها للأحداث السياسية وطريقة تعاطيها معها وهو ما ظهر بشكل جلي في الرواية التي تحاول الإجابة عن الأسئلة المؤجلة والمسكوت عنها من خلال طائفة يهود العراق التي مثّلَ العراقُ لها وطناً اقتصادياً دينياً أكثر من كونه وطناً وجودياً ( هوية ) لذا كانت أغلب مخاوف يهود العراق متعلقة بشكل الهوية وكيفية تحقيقها داخل بيئة عراقية تموج بالصراعات والتحديات السياسية التاريخية (كنت أسمع هسيس الناس وعداءها اتجاه اليهود من دون ان يفرق بعضهم بين اليهود كمواطنين عراقيين، وبين الصهاينة )ص220 وهو ما يعيد لطائفة مثل اليهود أسئلتهم التاريخية ؛ لماذا لا نشعر بالانتماء لوطن مثل العراق ولدنا فيه وعشنا فيه ؟ لماذا نترك أماكننا الدينية والقومية لليهود ، لتأتي الإجابة الجاهزة من قلب التاريخ اليهودي والثقافة ،لأن العراق أرض السبي الأول لليهود (بابل) على الرغم من محاولات بطل الرواية يعقوب تأجيل الإجابة وتفنيدها ومواجهتها بإعلان مدينة كربلاء أنموذجاً حيّاً للتعايش السلمي والانسجام الاجتماعي بين شتى الأديان والثقافات، لكن شعور يعقوب وزوجته بالانتماء إلى المكان العراقي ورفض كل أسباب الهجرة الى فلسطين ظل شعوراً فردياً بعد هجرة جميع أقاربه وأبنائه يسع ودانيال ومسعودة إلى إسرائيل جعل من موقف يعقوب وزوجته ريم مجرد لحظة وحيدة عابرة لا تشكل شيئا أمام حلم الدولة الأم وأرض الميعاد الديني إسرائيل (ضاقت كربلاء بنا بل ضاق العراق بما رحب، فقد هاجر الجميع … ،أضحت ريم يأكلها الفراغ مثل شجرة عارية )ص235.
في الختام الرواية تحاول إعادة الربط ما بين صورة الماضي (المشكلة القومية والدينية المتمثلة بيهود العراق، وبين صورة الحاضر المتمثلة بدخول داعش والصراع الطائفي والديني اليوم) .
وفي مجمل القول إن رواية (حمّام اليهودي) قد تمكنت من فتحت باب الأسئلة المغلقة حول هجرة طائفة طالما كان لها حضور اقتصادي وسياسي مميز وفاعل في دولة حديثة مثل العراق تزخر بالطوائف والاقليات المتعايشة سلميا منذ آلاف السنين.