د. فخري قدوري
الدكتور فخري قدوري من أوائل البعثيين في العراق يكشف في كتاب ” هكذا عرفت البكر وصدام.. رحلة 35عاماً في حزب البعث” معلومات عن صدام حسين الذي جمعته به علاقة عمل فرضت ملاقاته يومياً لمدة ثماني سنوات، ويقدم صورة واضحة لشخصية متواضعة في البداية، ومنتهية بتسلط ونكبات متتالية، حسب تعبير المؤلف.
وفي الكتاب أوصاف دقيقة لأحمد حسن البكر وصدام حسين وجوانب من عاداتهما الشخصية لم يطلع عليها غير المقربين منهما.ويصف المؤلف كيفية انتمائه إلى حزب البعث وسيرته الحزبية وتجاربه مع رفاقه في الحزب “بعد أن أصبح الحزب في نهاية الأمر محكوماً من قبل شخص واحد وأصبحت تنظيماته تحت مظلة الإرهاب تنفذ رغبات الحاكم المستبد”.
“الصباح الجديد” تنشر فصولاً من هذا الكتاب نظراً لدقة المعلومات التي سردها الدكتور فخري قدوري حول مرحلة الاستبداد والتفرد وطغيان صدام حسين.
الحلقة 10
الفصل السابع عشر
التحقيق الحزبي يلاحقني في عمان
13 اتهاماً أخطرها التعاون مع سوريا ضد العراق
أشرت في هذا الكتاب الى إنني تعرضت – حين كنت وزيرًا للاقتصاد –لعمليات تحقيق اجراها شخصياً بحقي كل من البكر وصدام وعبد الخالق السامرائي بسبب تقارير حزبية ملفقة , كانت ساحتي تبرأ بعد الفراغ من كل منها . لكن محاولات الايقاع بي لم تنته , ولم يتوقف التحقيق معي حتى عندما كنت اعمل خارج العراق , بد انتخابي مدة خمس سنوات 1978 -1983 من قبل الدول العربية اميناً عاماً لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية الذي يعد احدى المنظمات القائمة في اطار الجامعة العربية .
في احد الايام من شهر أب / اغسطس عام 1980 اتصل بي السفير العراقي في منزلي بعمان هاتفياً معربًا عن رغبته بزيارتي فأجبته على ذلك . وبعد ان رحبت به سلمني رسالة مغلقة قال انها وردت من بغداد وعلي تسليم الجواب مغلقاً اليه مباشرة . وبعد برهة وجيزة انصرف السفير , لأنظر انا الى الظرف المعنون الي وإذا به يحمل اسم (حزب البعث العربي الاشتراكي / القطر العراقي / مكتب امانة السر /سري وشخصي ) .
فتحت الظرف واذا بالكتاب موقع من قبل علي حسن مجيد (مدير عام مكتب أمانة سر القطر)
ومؤرخ في 18 اب / اغسطس 1980 ويطلب الاجابة تفصيلا وبالسرعة الممكنة .
تضمن الكتاب ثلاثة عشر اتهامًا بسوء الادارة والتصرف . ومن خلال مضامينها بدا واضحًا انها استندت في الاصل الى تقارير موظفين يعملون في الامانة العامة للمجلس وهم على صلة بالمخابرات العراقية . اجبت على التهم بخط يدي , نافيًا اياها الواحدة تلو الاخرى ومشيرًا الى المستندات الثبوتية لدى الامانة العامة التي يستطيع مندوب العراق الدائم في عمان الاطلاع عليها في أي وقت يشاء . سارعت بتسليم الجواب بظرف مغلق الى السفير العراقي بتاريخ 31 اب / اغسطس , من دون أي تأخير قد يوقعني بمشكلات جديدة .
ولعل أخطر ما جاء في كتاب التحقيق اتهامي بالعمل مع سوريا ضد العراق . عندما ادركت خطورة ما يحاك ضدي هذه المرة . فقد كان معروفا لدى الجميع ان من يحكم بهذه التهمة لا تكون عقوبته دون الرقبة . سألت نفسي : الم يشفع لي اذن دوري في مفاوضات النفط المضنية مع سوريا التي استغرقت اسابيع عديدة , الم يشفع لي دوري في الوفد العراقي – برئاسة صدام نفسه – بشأن مياه نهر الفرات ومد الانبوب النفطي الاضافي , وماذا عن تكليفي من قبل صدام ذاته ببحث امور حساسة مع الرئيس السوري في حينه حافظ الاسد , وغيرها من الامور العديدة الموثقة . أهكذا تأتي تهمة التعاون مع سوريا على العراق ضد من يراد ازاحته بعد ذلك ؟
ربطت هذه التهمة بحادثة غريبة اخرى وقعت لأقربائي في بغداد . فقد سافر موظف من مكتب الاحصاء لمجلس الوحدة الاقتصادية لحضور اجتماع في بغداد يتعلق بأمور الاحصاء . وكنت رجوت هذا الموفد بزيارة شقيقتي وتسليم رسالتي الشخصية لها ان تسنى له الوقت .
وما ان انتهت زيارته حتى داهمت المخابرات العراقية دار شقيقتي وأجرت تحقيقًا معها ومع زوجها عبد اللطيف الكمالي (شقيق شفيق الكمالي) وهما من ابناء عمي , وانصب التحقيق حول هدف الزيارة وما جاء في رسالتي الشخصية لسبب رئيسي كون الموظف سوري الجنسية .
استقالتي من مجلس الوحدة الاقتصادية العربية
تعقد عملي في هذا المجلس بسبب توسع الخلافات السياسية العربية وانعكس ذلك على مسيرة العمل العربي المشترك , بل ان تلك الخلافات اخذت تهز ما تم انجازه من خطوات ومؤسسات عبر العقود الماضية . فقد ظلت حبراً على ورق قرارات مؤتمر القمة العربي من تلك الخلافات . وبقيت الجامعة العربية ومنظمات العمل العربي المشترك _ التي يبلغ عددها نحو 30 مؤسسة _ تمر بحالة ركود او تراجع . وكان الامين العام للجامعة العربية – الشاذلي القليبي – حذر وفي مناسبة قومية في نيسان / ابريل واخرى في مايس / مايو 1982 من (ان العمل العربي المشترك اصبح اليوم مهدداً بالتوقف).
في هذه الاجواء برزت رغبات من بعض الدول العربية بتصفية مجلس الوحدة الاقتصادية . وكانت الحجة ان اتفاقية تأسيسه – من فترة التحضير عام 1956 حتى قيامها رسمياً عام 1964 – تمت في ظل توجات قومية طموحة على الساحة العربية وان الظروف الجديدة – بعد مرور اكثر من عقدين من الزمن – لم تعد تساد على تنفيذ تلك الاهداف المنشودة .
وادى توسع الخلافات العربية من ناحية وبروز تكتلات سياسية / اقتصادية ضمن المنظومة العربية من ناحية اخرى الى اضعاف مسيرة العمل المشترك ومنظماته على الصعيد القومي .
وهكذا تحول مجلس الوحدة من حركة دائمة نحو الاهداف الى هيكل تنخر فيه الخلافات . وكحصيلة , اصبح الامين العام الحطب الذي تأكله نار تلك الخلافات .
ومما زاد في الطين بلة ان مندوب العراق الدائم لدى الامانة العامة للمجلس كان يتخذ مواقف سلبية ضدي أدت الى استغراب الدول العربية وأعطت أشارة واضحة ان قدوري شخص غير مرغوب به من قبل السلطة في بغداد .
استمرت المضايقة من العناصر الحزبية والمخابرات العراقية الذين لم يكترثوا بوضعي الرسمي كأمين عام لمنظمة عربية , فجاء امر بالتحاقي بخلية حزبية برئاسة الملحق العسكري العراقي واضطررت لحضور اجتماعاتها داخل السفارة مرة في الاسبوع . ثم جاءتني اوامر لالقاء محاضرات اقتصادية على فرق حزبية في الاردن . وكنت اشعر انهم كانوا يريدون اثارتي ويتمنون لو امتنع عن تنفيذ الاوامر ليشددوا الخناق علي .
ثم واصلت السفارة مضايقاتها وكان لها وللمخابرات العراقية نفوذ في الاردن . ولم يكن غريباً لجوء الجهات الاردنية الى سحب جواز سفري في مطار عمان كل مرة كنت اغادر فيها المطار او اعود اليه من رحلاتي الرسمية والشخصية , لكن الجواز كان يعاد لي بعد برهة قصيرة ربما لكونه جوازاً دبلوماسياً مما يسبب لهم بعض الاحراج .
تلك هي الظروف التي دفعتني الى الاستقالة من منصبي كأمين عام لمجلس الوحدة يوم 24 حزيران / يونيو 1982 . وفي مؤتمر صحفي عقدته في الامانة العامة وحضره الموظفون ورجال الصحافة اعلنت استقالتي واشرت الى الظروف العربية المريرة التي وقفت خلفها .
بعد ظهر ذلك اليوم اتصل مكتب رئيس الوزراء الاردني بي في المنزل راجياً حضوري الى مجلس الوزراء الذي كان في حال انعقاد , وكانت استقالتي على جدول اعماله . خرج من الجلسة وزيران لمقابلتي في غرفة مجاورة في محاولة طويلة لعدولي عن الاستقالة , لكنني كنت مصرًا على موقفي ثم ودعتهما شاكرًا نواياهما الطيبة .
بدأت الاذاعات والصحف العربية تنشر نبأ استقالتي وأسبابها والتعليق عليها أياما عديدة .
فكان ان وجهت صحيفة (الوطن) الكويتية بعددها الصادر يوم 29/6/1982 الدعوة لأمين عام الجامعة العربية كي يقدم هو الاخر استقالته , ضمن مقال افتتاحي مطول تحت ( استقل يا امين الجامعة ) جاء فيه :
“وحسنا فعل امين مجلس الوحدة الاقتصادية الدكتور فخري قدوري عندما قدم استقالته في الاسبوع الماضي لانه , وحسبما ما اعلن , وجد صعوبات عملية في ادائه لمهمته , الامر الذي بات الرجل معه عاجزًا عن ان يستمر في تحمل تلك المسؤولية . واذا كان هذا السبب الحقيقي , فأننا يجب ان ننصف الرجل , ونعد اختياره موقفاً شجاعاً ومشرفاً . اذ عندما يصبح المسؤؤل عاجزا عن مباشرة مسؤولياته , بالأخص اذا كان يتصدر قيادة مرفق قومي , فأن الامانة التاريخية تفرض عليه ان يتخلى عن موقعه , حتى لا يستمر في ايهام الجميع ان ثمة رسالة تؤدى في حين انها معطلة ومصابة بالفشل . واذا كان الامر كذلك فأننا ندعو امين الجامعة العربية , الشاذلي القليبي , لان يقدم استقالته من منصبه على الفور . واذا كان امين مجلس الوحدة الاقتصادية قد فعلها , ومسؤوليته اقل ومجال عمله محدود النطاق , فـأن الاولى بالاستقالة بالفعل هو امين الجامعة العربية قبل غيره … استقل يا امين الجامعة , فذلك اكرم لك , ولنا ولتاريخ هذه المرحلة المشؤومة من عمر الامة العربية”.
بعد ان قرأت المقال المذكور بكامله سألت نفسي , الا كان الاصوب ان توجه الدعوة للأنظمة العربية للاستقالة ؟ الم تكن سياسات تلك الانظمة هي السبب في انحسار العمل العربي المشترك وارتباكه وتآكل منجزاته وهدم الامال المعلقة عليه؟