بغداد – سها الشيخلي:
اقام معهد التقدم للسياسات الانمائية الذي يديره النائب ووزير التخطيط الاسبق الدكتور مهدي الحافظ ندوة، السبت الماضي تناولت (ملامح الوضع العام والطريق لحل ازمة الحكم) بحضور عدد من رجال السياسة والاقتصاد وادار الندوة السفير حسن الجنابي.
الدستور المتناقض
وفي مستهل الندوة تحدث الدكتور الحافظ عن ماتمخضت عنه مرحلة منذ 2003 التي انتجت الدستور المتناقض.. مشيرا الى ان الدستور العراقي الحالي هو خلاصة لاجواء غير طبيعية كانت تسود عند صياغته وتشريعه . ويذكر هنا د . علي علاوي الوزير السابق في كتابه ” احتلال العراق .. ربح الحرب وخسارة السلام “ان وثيقة دستورية ذات اهمية بالغة قد تم وضعها من اناس تعودوا على عقد الصفقات وراء الابواب المغلقة .. وفي التحليل النهائي فأن الدستور يحمل علامات لسلسلة من الصفقات لنافذين سياسيين. ومن جهة اخرى فأن الدستور قد تعثر بشأن العناصر التي يتكون منها ميثاق عراق جديد “.
ويستخلص الحافظ من ذلك ان الدستور الحالي او مايطلق عليه بـ ” ميثاق عراق جديد ” لايعبر بصدق عن الحاجات الوطنية بل يطرح مفاهيم تتحمل تفسيرات متناقضة وهذا ماحصل بالنسبة للمادتين ( 111 و 112 ) المتعلقتين بالنفط والغاز .
فالرأي السائد للحكومة الاتحادية يتناقض كلياً مع رأي حكومة اقليم كردستان الامر الذي ادى الى بروز خلافات وبرامج متناقضة وترتب عليها هدر واضح للموارد المالية الوطنية . لقد افتقد الدستور نقاطا جوهرية فيما يخص مستقبل العملية النيابية في العراق اذ لم يتضمن رؤية دقيقية وواضحة حول كيفية حل المجلس عند الضرورة في البلاد وهي مسألة خطيرة جداً بالنسبة للاعراف الدستورية والقانونية بوجه عام . ثم ان الدستور قد تضمن مادة مهمة تقضي بأجراء التعديل المطلوب على نصوصه في وقت لاحق وهي المادة ( 142 ) الا ان شيئا من هذا القبيل لم يتحقق علما بأن مراحل التطور اللاحق منذ 2005 قد اوجبت اداء التعديلات الدستورية . ثم هنالك نقاط اخرى تتعلق بالاشراف على المؤسسات المستقلة لم تحدد بوضوح الناحية الادارية والقانونية ومن هذا نستخلص ان تعديل الدستور او استبداله بدستور عصري ووطني جديد هو احدى المهمات الرئيسة المطروحة .
اعطاء الصوت للحاكم بالاغلبية
واشار الحافظ الى ان ” التوافق ” الذي انتشر واعتمد في العملية السياسية كان سببا من اسباب الابتعاد عن المناخ الديموقراطي الصحيح . ” فالتوافق ” بصيغته المعتمدة حاليا عبارة عن شكل من اشكال المحاصصة الطائفية والاثنية . وكان ينبغي ان يستبدل بالمبدأ الديموقراطي الشهير هو اعطاء الصوت للحاكم بالاغلبية سواء كان في مجلس النواب او في العلاقات بين الكتل والاطراف السياسية .. مبينا ان نظرية ” التوازن ” التي يجري ويجري لها هي عبارة عن نقض لمفهوم تكافؤ الفرص وروح المواطنة الواجب اعتمادها اساسا في العلاقات الاجتماعية وفي بناء الدولة المستندة الى المعايير المهنية بالدرجة الاولى . ينبغي احترامها ككل واحد. ولابد ان يجري التعديل واخرج من هذا الى القول بأن مبادئ الديموقراطية لاتتجزأ بل يجري العمل بها على وفق تطور الحاجات المحلية والمعايير العصرية.
بناء الدولة على اساس الكفاءة والمواطنة
ويتحدث الحافظ عن بناء المؤسسات والتخلي عن الانحياز الطائفي قائلا ..تجري عملية بناء مؤسسات الدولة على اسس خاطئة وهي لصالح الانحياز الطائفي بالدرجة الاولى , فالبناء الوطني يهدف لبناء الدولة على اسس الكفاءات والاختصاص والمعايير المهنية ، اي بكلمة اخرى احترام حقوق المواطنة وتشجيع المنافسة النزيهة . اما اليوم فنلاحظ بعد احدى عشرة سنة منذ التغيير قد تركزت الروح الطائفية والاثنية بحيث اصبح نظام التوظيف يعتمد بالدرجة الاولى على الانحياز الطائفي والعرقي ونجم عنها خلق اجواء من هدر الموارد البشرية والوقوع في شرك الصراعات الضيقة وعدم الاستفادة من امكانات البلد على اسس صحيحة .
اقتصاد الدولة والعدالة الاجتماعية
وفي اشارته الى الحالة الاقتصادية يقول الدكتور مهدي الحافظ ان الحالة الاقتصادية تعاني من تدهور كبير في اغلب المناحي تقريباً . فلا المؤشرات الاقتصادية التقليدية تقدم صورة دقيقة عن مستوى التطور وحجم الاصلاح الجاري – نظريا – في البلاد . فمعدل دخل الفرد السنوي يجسب قاعدة اقتصادية تقليدية من خلال تقسيم حجم الموارد المالية على عدد السكان المتزايد بأستمرار . فلا يمكن مثلا تصديق الارقام المقدمة من حيث ان معدل دخل الفرد السنوي هو في حدود 3600 دولار للفرد . فهذا رقم خيالي بالنسبة للحالة المعيشية الفعلية للفرد العراقي . فالقاعدة الثانية المهمة تكاد تكون مفقودة ولاتقدم صورة سليمة عن حجم ومعدلات التوزيع . ففي دراسة للامم المتحدة صدرت قبل عدة سنوات جرى الربط بين اقتصاد الدولة والعدالة الاجتماعية بوصفها توليفة جيدة لضمان النمو والتنمية وحفظ مصالح السكان بصورة متساوية او متقاربة . ثم ان البطالة منتشرة على نطاق واسع وتراجع الخدمات المستمر بشكل مريع من حيث خدمات الكهرباء والماء والنظافة ومستوى المعيشة بوجه عام .. اما الفساد فهو معضلة مقلقة للغاية . وبات العراق موطنا لهذه الظاهرة بحيث اصبح يعد ضمن الدول الفاشلة والغارقة في الفساد بشكل ملفت للنظر . . ان القطاعات الاقتصادية كالزراعة والصناعة وسواهما فباتت متأخرة جدا ، ولايمكن ان تقارن بصورة سليمة بما كان عليه الحال في عهد النظام السابق ولاسيما في السبعينيات من القرن السابق .
ويلفت الحافظ الى ان التجارة الخارجية لاتستطيع ان تحل هذه المعضلة لسبب بسيط هو غياب الضوابط الموجهة فضلا عن عدم الالتزام بقواعد الاداء الكمركي الصحيح وفقدان الرقابة المركزية والتوثق من سلامة السلع المستوردة الامر الذي حعل العراق معتمدا على السوق الخارجي بحدود ملحوظة وادى الى الاضرار بالمنتج الوطني في جميع القطاعات ولاسيما الزراعة .
التوازن والتطور السليم للاقتصاد
ويترافق مع هذه الظواهر الاختلال الحاصل في نظام الرواتب والاجور والتقاعد والتوسع غير الطبيعي في الكيان الوظيفي للدولة .. عاداً ان مورد النفط كان ومايزال هو المصدر المالي الاساسي للدولة . غير ان ذلك طرح ويطرح اهمية التوازن الاقتصادي بالنسبة للقطاعات الاخرى . فالتوازن حاجة ملحة لتطور الاقتصاد السليم ولخلق مواقع مستقلة جديدة للتمويل العام ، ثم ان الاعتماد على موارد النفط قد عمقت حالة التفاوت بين القطاع العام والقطاع الخاص واوجد حاجة ماسة للاهتمام بالقطاع الخاص وتمكينه على القيام بالدور الريادي في العملية الاقتصادية … مبيناً ان هنالك دراسات عديدة قد وضعت لهذا الهدف ومنها التقرير الاخير للبرنامج الانمائي للامم المتحدة . ولكن يبقى السؤال مطروحا بقوة لازالة الاختلال في الهيكل الاقتصادي للدولة وتقليص حجم القطاع العام بصورة عقلانية ومدروسة .
كما ان حالة المصارف والسياسة النقدية للدولة هي ايضاً معضلة حامية وتحتاج علاجا جوهريا فلايمكن اهمال المصارف الاهلية والاعتماد على المصارف الحكومية الى أمد اطول . وهنا نشير الى تقرير ” البنك الدولي” الذي وصف القطاع المصرفي بأنه الاضعف في الهيكل المالي للدولة . وكذلك دعوته لتحويل البنك المركزي الى اداة انمائية فضلا عن قيامه بالواجبات النقدية المعروفة .
انتكاسة الموصل وقيام التمرد
كما تحدث الدكتور مهدي الحافظ عن مشكلة الموصل وغياب الامن والاستقرار الذي كان ومايزال المعضلة الجادة التي تعيشها البلاد . وجاءت انتكاسة الموصل وقيام التمرد فيها ليسجل نقطة تحول كبيرة على هذا المسار .. وهذه المشكلة لايمكن حلها وتصفية التمرد في الموصل واجزاء اخرى من الوطن مالم يعاد النظر بسياسة الوحدة الوطنية والاصغاء للمطالب المشروعة للطوائف المختلفة . فالطائفية كانت سببا جوهريا للتمرد أضافة الى الدعم الخارجي من بعض الاقطار المحاورة . ولعل مراجعة الوضع الامني بآلياته ونظامه وادائه يعد المسألة الاهم لتصحيح الحالة العامة في البلاد . وسبق ان بحثنا هذا الامر في مناقشة سابقة واكدنا على اهمية اعادة المصالحة الوطنية بين جميع الطوائف والفئات وتثبيت مبادئ المواطنة وتكافؤ الفرص اساسا لبناء الدولة ومؤسساتها .. والحقيقة ان ” داعش ” واعوانها لم تأت من فراغ بل هي تتويج لسياسات وممارسات خاطئة ادت الى الحالة المزرية التي تمر بها البلاد .. فلا يمكن لهذا البلد ان ينمو ويستقر مالم تقوم حالة امنية فيه وتحترم حقوق المواطنين قاطبة.
استقلال كردستان
ويستعرض الدكتور الحافظ في سياق حديثه عن المسألة الكردية .. ان بيتر غالبريث في كتابهالموسوم ” نهاية العراق ” الصادر في2006 يطرح عدة عوامل لتأمين استقلال كردستان او انفصالها عن العراق من بينها السيطرة على الحدود الدولية مع تركيا وايران .. وتطوير الموارد النفطية من دون الرجوع الى بغداد … فضلا عن الاحتفاظ طبعا بالبيشمركة .. وعدم قيام الحكومة الاتحادية بفرض ضرائب الاقليم . اي ان كردستان كيان منفصل عن الدولة الاتحادية من بعض النواحي المالية للدولة .. الا ان المسألة الاهم هو ضبط العلاقة بين الجهتين على اسس مقبولة لدى الطرفين . والواقع ان الاحداث قد تطورت مؤخرا بحيث يذكرنا بصحة ما ذهب اليه ” بيتر غالبريث ” الذي اوردنا كلامه قبل قليل … مشيرا الى ان تطور الخلاف بين الجهتين بدأ يطرح قضية اخطر تتعلق بوحدة العراق والتجزئة المحتملة للبلاد . وهنا لابد لنا ان نقدم رؤية او حلا مدروسا لهذه المشكلة فلايمكن ان تستمر لما يسمى بـ ” الشراكة ” على الطريقة القديمة ، بل ينبغي ان توضع أسس عملية للوحدة الوطنية والحفاظ على المكاسب المحققة من غير تحيز . وقد يكون ضروريا اعادة النظر بالهيكل العام للدولة على اسس واضحة وملزمة .
التخلي عن الانحياز الطائفي
وحذر الحافظ من الانقسام العميق والواسع بين الفئات الاجتماعية والاطراف السياسية وينبغي ان يعالج بطريقة عملية ومدروسة . ولعل اهم عناصرها هو التمسك بالمفاهيم الديموقراطية والمواطنة الحقة وتكافؤ الفرص بين المواطنين أي ان يجري التخلي عن الانحيازات الطائفية والاثنية والحرص على وحدة وطنية وعملية في البلاد واعادة التفكير بالاطار الفدرالي للدولة وان يكون محكوما بأسس واضحة .
وتبرز هنا اهمية الدستور والوثائق الوطنية الاساسية للمجتمع وهي تتطلب ان تعدل او تراجع على وفق مفهوم وطني واسع ويركز على روح التجميع بين جميع الفئات السياسية والاجتماعية كما ينبغي ان يعتمد رؤية اقتصادية واجتماعية عصرية تحرص على اعادة التوازن في الهيكل الاقتصادي والتحرر من هيمنة النفط وتوظيف موارد البلاد بصورة سليمة ومدروسة ، وجعل القطاع الخاص قوة رائدة للاقتصاد الجديد وتحويل البنك المركزي الى اداة انمائية وليس جهازا نقديا بحثيا .
الحلول التأسيسية
وبعد ان انهى الدكتور مهدي الحافظ حديثه بشأن الوضع العام وازمة الحكم في العراق .. طرح عدد من المشاركين في الندوة جملة من الرؤى والافكار متناولين الموضوع بالشرح والتحليل حيث يقول
الخبير الاقتصادي الدكتور احمد بريهي اشار في مداخلته الى بعض القضايا المهمة التي تتطلب حلولا تأسيسية وليس افتراض آليات للوصول الى آليات لم يوافق عليها احد .. فهناك مثلا مشكلة الاكراد مع المركز فيما يتعلق بترسيم حدود الاقليم فهذه المسالة لاعلاقة لها بالمركز انما تتصل بالارض والناس وتحتاج الى مفاوضات بين الكرد وبقية العراقيين الممثلين في البرلمان ولكن هذا الامر لم يحدث لحد الان ..
واضاف ابريهي كما ان هناك قضية نفط كردستان حيث اصبح الاقليم مستقلا تماما في عملية الانتاج والتصدير وادارة الثروة النفطية وفي هذا السياق يلقي الكثير من السياسيين المشاركين في العملية السياسية باللائمة على رئيس الوزراء في حين ان جميع المشكلات تحتاج الى مفاوضات وليس بقرار من رئيس الوزراء الذي يتعرض لضغوط هائلة داخلية وخارجية قد تدفعه الى اتخاذ قرارات غير مدروسة تكون لها آثار سلبية على الواقع مستقبلا
اما الخبير الاقتصادي الدكتور مظهر محمد صالح دعا في مداخلته الى اقرار القوانين المهمة ومن بينها قانون الاحزاب الذي تقف الكتل السياسية بالضد من تمرير هذا القانون الامر الذي ادى الى انتشار الكثير من الفساد
الاعلامي حسين فوزي تساءل في مداخلته عن اسباب الرفض لمبدأ التوافقات السياسية من قبل البعض في حين ان جميع الدساتير في العالم تقر بمبدأ التوافق فالدستور لايعبر عن ارادة الناس مالم يكن على اساس توافقي .. مبينا ان الاساس في الموضوع هو الموقف من القضايا الاساسية والتوافق بشأنها.