الحكم الاستبدادي وسياسة أردوغان في تركيا

إيس تيملكوران
روبرت فين
و سونر اغاپتاي

تجري أحداث رواية تيملكوران الأخيرة في أنقرة خلال العقود الثلاثة التي سبقت انقلاب العام 1980، وهي قصّة لم تعالَج بالقدر الكافي بعد. وتتأرجح رواية «زمن التم الأخرس» بين الخيال والواقع، علمًا بأن الأحداث الفعلية التي ألهمت الكاتبة غالبًا ما كانت مثيرة للاهتمام أكثر من القصص الخيالية المنسوجة حولها.
دارت أحداث إحدى هذه القصص الحقيقية في الفترة التي تلت الانقلاب. فقد أراد الجنرال القائد في تلك الحبكة، ويدعى كينان إيفرين، بناء منتزه في أنقرة. بالرغم من المنتزهات العديدة الموجودة في المدينة ومن بينهما منتزه شهير فيه تم (إوز)، بنى إيفرين متنزهًا خاصًا به ونقل الإوز إليه. فحاولت طيور الإوز التعيسة العودة إلى منزلها الأصلي في «سوان بارك»، إلا أنها توفيت الواحدة تلو الأخرى في رحلتها غير المأمونة عبر المدينة. ولمنع هجرة هذه الطيور، أمر إيفرين الأطباء البيطريين بإيجاد وسيلة للحد من قدرة الإوز على التنقل، فكمن حلّهم في إجراء عملية لإزالة عظمة من أجنحة الإوز.
وبعد أربعة عقود، عندما سألت تيملكوران سكان أنقرة عما إذا كان بإمكان الإوز الطيران، أجابوا بدون استثناء بالنفي. هذا هو بالتحديد ما فعله الانقلاب العسكري: لقد جعل الناس ينسون أن طيور الإوز التي لا تطير كانت ضحية عملية مخالفة للطبيعة وليس ظاهرة طبيعية.
قضت تيملكوران ستة أشهر تتصفّح المحفوظات البرلمانية في أنقرة للبحث عن السرد الذي نسجه انقلاب العام 1980. فهي تعتقد أن بذور الاستبداد السياسي المزروعة في ذلك الوقت باتت اليوم تنمو وتكبر.
جادل الجيش لتبرير تدخله في العام 1980 بأن تركيا كانت في حالة حرب أهلية منذ سنوات، حيث شهدت وقوع قتلى مدنيين ونقصًا في الأغذية وضغوطات أخرى لا يمكن وقفها إلا من خلال الانقلاب. غير أن هذا السرد تجاهل ثلاث نقاط رئيسية، أولها أن الطبقة الوسطى كانت قوية في سبعينيات القرن العشرين، وثانيها أن الخطاب الديني لم يكن يحتكر مفهومَي اللطف والكرم، والنقطة الثالثة هي أن التضامن والمشاركة كانا لا يزالان سائدَين بدلاً من الانقسام بين فائز وخاسر.
في الآونة الأخيرة، أصبحت النزعة الشعبوية رائجة مرة أخرى كموضوع للنقاش بين المفكّرين الأمريكيين والأوروبيين. ومع ذلك، يتصرّف بعض هؤلاء المفكرين كما لو أن الشعبوية ظهرت من العدم. في الواقع، تعود السابقة التاريخية للموجة الشعبوية التركية الحالية إلى ثمانينيات القرن الماضي عندما أنسى الجيش الناس أن الإوز قادر على التحليق. وكذلك لا بد من التدقيق في الرواية السائدة في الشعبوية الأمريكية بغية استعادة الجزء المفقود من القصة واستقاء الدروس التحذيرية المناسبة.
لا الصحافة ولا الأدب قادران على تغيير العالم. فالكلمات هشّة جدًا. ولكن يمكن أن تحافظ الكتابة على الجمال وتذكّر الناس بقدرتهم كبشر. فالشر لا ينتصر بين ليلة وضحاها، بل يحاصر العقل ويجبر الناس على نسيان قدرتهم على الإنتاج والخلق والتخيل، والأهم من ذلك، التذكر.
في أواخر سبعينيات القرن العشرين، كان روبرت فين يعيش بصفة دبلوماسية في اسطنبول، حيث كانت زوجته تعطي دروسًا في الجامعة. اعتادا ليلاً سماع طلقات نارية من الجماعات اليسارية واليمينية في الشوارع. وعندما كانا يغادران المنزل من أجل التزاماتهما المسائية، غالبًا ما كان يستوقفهما رجال مجهولون يرتدون المعاطف المطرية ويطلبون منهما أوراق هويتهما. وتوقع الناس أنه بمجرد أن يصل عدد القتلى اليومي إلى عشرين، سيتدخّل الجيش حتمًا. وتحقّق هذا التوقع في العام 1980.
منذ بروز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في العام 2003، غالبًا ما شجّعت الصحافة الغربية المجتمع الدولي على دعمه وحكومته. ولكن تغطيتها لتركيا – في العام 1980 واليوم أيضًا – تبقى محدودة للغاية بسبب افتقارها إلى إمكانية الوصول إلى المصادر التركية. فالصحفيون الأوروبيون والأمريكيون لا يجيدون بالعادة اللغة التركية، ويميلون إلى البقاء في اسطنبول أثناء تواجدهم في البلاد، وهذا يخلق نظرة متحيزة جدًا عن تركيا. لذلك أتى قرار تيملكوران استثنائيًا في الكتابة عن أنقرة.
بالإضافة إلى الاستعارة المجازية الجميلة عن الإوز، تسجّل الكاتبة تفكك المجتمع التركي في سبعينيات القرن العشرين في اثنين من أحياء أنقرة، واحد يميني وآخر يساري، يفصل بينهما نهرٌ صغير. وتروى أحداث القصة من منظار أطفالٍ ينقلون الأحداث التاريخية التي تدور حولهم من دون أن يفهموا بالضرورة الأسباب الكامنة وراءها. فيرى القارئ في ذهنه كيف تتفكك علاقات الشخصيات بالتوازي مع المباني المتداعية. وتروي تيملكوران هذا الانهيار بطريقة لم تسردها التقارير السياسية المعاصرة قط.
خلال انقلاب العام 1980، أُجبر المواطنون على اتخاذ خيارات سياسية ورّطتهم في الطرف اليميني أو اليساري. كما أن السيطرة العسكرية والاستقطاب الإيديولوجي وضعا حدًّا للحوار السياسي، ولم يُتَح أي حل وسط. وبالتالي، فإنّ الوضع الراهن ليس سوى الإرث الذي ورثته تركيا من تلك الحقبة.
خلال نشأته في تركيا، اعتاد سونر كاغابتاي قضاء الصيف في أنقرة حيث كان يزور أسرته ويقصد متنزه «سوان بارك». وكان لا يزال يعتقد أن الإوز عاجز عن الطيران حتى قرأ كتاب تيملكوران.
بعد انقلاب العام 1980، أراد الجيش إنشاء مجتمع جديد وإحداث تحول حاد عن مسار السبعينيات. فأدى تولّيه السلطة إلى سجن نحو نصف مليون يساري (تعرّض كثير منهم للتعذيب) وتدمير الحركات اليسارية النشيطة في تركيا، لتُقطع بذلك الصلة بين اليسار السياسي والطبقة العاملة الاقتصادية بشكل دائم. ولم يعد بإمكان أعضاء الحزب أن ينتموا إلى الاتحادات (والعكس صحيح)، كما حُظّر على الاتحادات التبرع بالأموال إلى أحزاب الطبقة العاملة. واضطرّت هذه الفصائل لأن تصبح أحزاب الطبقة المتوسطة، في حين ملأ الإسلاميون السياسيون الفراغ الناتج في أقضية الطبقة العاملة طوال فترة الثمانينيات والتسعينيات. ومن هنا نشأ «حزب العدالة والتنمية».
ومن التأثيرات الأخرى للانقلاب كان السماح بدخول الدين بعض الشيء في الحكومة والتعليم بهدف تلقيح تركيا ضد الحركات اليسارية. فألغى الجيش جدار الحماية العلماني بين الدولة والدين، وتمّ إدخال دورات إلزامية عن الإسلام السني لجميع الطلاب، وبدأت شبكة التلفزيون الوحيدة في البلاد، وهي شبكة «تي أر تي» TRT التي تديرها الحكومة، ببث برامج دينية تعطي الأفضلية للطائفة السنية وتتجاهل الطوائف الدينية الأخرى. وهكذا فتح الجيش العلماني المجال أمام تحول المجتمع التركي إلى مجتمع ذي طابع إسلامي بصورة لا رجوع فيها، وبالتالي مكّن أعداءه الإسلاميين السياسيين.
ويأتي انشقاق وسط اليمين، وهو الركيزة السياسية المهيمنة تقليديًا في تركيا، ليسجّل تغييرًا جذريًا آخر في أعقاب الانقلاب. إذ وضع الجنرالات حظرًا على السياسيين الذين كانوا يديرون البلاد في السبعينيات، ومن بينهم زعيم وسط اليمين ورئيس الوزراء السابق سليمان ديميريل. وفي غيابه، شكل سياسيو وسط اليمين فصيلة أخرى هي «حزب الوطن الأم» برئاسة تورغوت أوزال. ولكن ديميريل عاد إلى معترك السياسة بعد رفع الحظر عنه وأنشأ حركته الخاصة ألا وهي «حزب الطريق القويم». وقد أدّى ذلك بشكل قاطع إلى تقسيم وسط اليمين إلى طرفين. وبما أن وسط اليمين قد هيمن على تركيا منذ تحوّلها إلى ديمقراطية متعددة الأحزاب في العام 1950، استُضعفت تركيا عندما قامت هذه الأحزاب بتفكيك بعضها البعض وتراجعت إلى ما دون العتبة الانتخابية اللازمة لدخول البرلمان.
والواقع أن هذه العتبة التي تبلغ 10 في المائة من الأصوات الوطنية هي نقطة تحوّل هامة سمحت لأردوغان بامتلاك نفوذ غير متكافئ على تركيا. والجدير بالذكر هو أن هذه العتبة الانتخابية هي الأعلى بين كافة الديمقراطيات الأخرى، وقد وضعها الجيش في الأصل لإبقاء الأحزاب القومية الكردية خارج البرلمان. وفي انتخابات العام 2002، حلّ حزبا وسط اليمين دون نسبة العشرة في المائة فيما تمكّن «حزب العدالة والتنمية» من الحصول على ثلثَي مقاعد البرلمان بالرغم من فوزه بنسبة 34 في المائة فقط من الأصوات.
لقد تمّ تدمير نظام الأحزاب التركي خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وتُعدّ العتبة الانتخابية واحدة من أكثر تأثيرات تلك الحقبة ضررًا. ذلك أنها عززت قوة أردوغان بأغلبيات تشريعية غير متكافئة وغير تمثيلية، وأزالت أي حافز له للاعتدال، ومهّدت الطريق أمام حكمه الاستبدادي الراهن.

*أعد هذا الملخص لمعهد واشنطن أويا روز أكتاس.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة