نهاية السبعينيات من القرن المنصرم شهدت مع أبناء جيلي انطلاق الحملات المنظمة لسحق كل ما يمت بصلة للتعددية السياسية والتنوع الفكري والثقافي في البلد، وليس سوى الصدفة المحضة جعلتني أعيش حتى هذه اللحظة، لأرى مشاهد زوال النظام المباد وانتشال شيخ جرذانه من حفرته الأخيرة، بعد أن قضيت ربع قرن في المنافي المحاذية للوطن، تعرفت فيها على حقيقة ما كان يعرف بـ (المعارضة العراقية) وعلل عجزها وفسادها العضال. غير القليل من المتابعين والمتلقين والعاملين في مجال السياسة والفكر والثقافة والإعلام، يلهجون من دون وجع من قلب وضمير بما تضمه ترسانة ثنائيات التشرذم من عبارات ومفاهيم، منها على سبيل المثال لا الحصر (عراقيو الخارج وعراقيو الداخل) وهي عبارة تحجب كما غيرها؛ الكثير من الحقائق عن المتلقين، ففي الخارج كما الداخل كانت الحياة فيه تمور بالاختلافات والصراعات، وقد فرزت الجماعات والأفراد وفقاً للمنظومة القيمية والممارسات السلوكية التي اتبعت، ومثلما فعلت السلطة التوليتارية في الداخل عبر حسمها الصراع لصالح الأتباع وكتبة التقارير واللصوص والعبيد، كذلك فعلت مناخات المنافي والشتات العفنة بمن قذفته الأقدار اليها، حيث طردت من صفوفها القسم الأعظم من القوى الحية صاحبة العقل النقدي والضمير والمواقف الشجاعة والمسؤولة، ورفعت من شأن شريحة الحبربش والوصوليين من شتى المواهب والمستويات. لفك شيئاً من طلاسم ما حصل بعد زوال النظام المباد، علينا أخذ هذه المعطيات بنظر الاعتبار، فالمشرط الخارجي أزاح العقبة أمام العراقيين لتقرير مصيرهم، وكان من الطبيعي أن تتحرج مقاليد أمور الغنيمة الأزلية في بادئ الأمر الى ما يمكن أن نطلق عليهم بمدللي المعارضة ومن ثم تلتقي مصالحهم مع أشباههم في الداخل من حيث المنظومة القيمية والفكرية والسلوك.
كل من يتعاطى بمسؤولية وإنصاف مع المشهد الراهن، بمقدوره اكتشاف حجم المشتركات بين هذه الكتل والجماعات بغض النظر عن العناوين والتسميات والواجهات، فالشراهة وضيق الأفق واعتماد سكراب “الهويات القاتلة” تجمعهم وتشرذمهم وتجمعهم وهكذا الى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. إن ماحصل لتجربة الإقليم والتي كان البعض يعدها رائدة ومتميزة في المنطقة، يمكن أن تكون مثالاً لما ستواجهه المشاريع الشعبوية الأخرى من مصائر لن تختلف كثيراً عما جرى لشركائهم في أربيل. أكثر من ثلاثة عقود من حكم أبشع نظام دكتاتوري عرفه تاريخ المنطقة الحديث، مع عقد ونصف من حكم هذه الطبقة السياسية الفاسدة والمتخلفة والفاشلة، تدعونا الى طلب العون مرة أخرى من المجتمع الدولي ومنظمته الأممية (الأمم المتحدة ومجلس أمنها) لإعلان العراق بلداً منكوباً. لقد فشلنا جميعاً كعراقيين من شتى المصنفات واليافطات، قومية كانت أم يسارية أم إسلاموية أم غير ذلك من التسميات والهويات الفضفاضة، وهم (من دون استثناء) لا يحتاجون الى فرص أخرى كي يكشفوا عن غير ذلك. مثل هذه النتائج تعرفنا عليها مبكراً وقبل زوال النظام المباد بوقت طويل، حيث تأكدنا من انعدام أية فرصة لتغيير هذه الكيانات والكتل والأحزاب من داخلها، وهي اليوم أشد تكلساً وشراسة وغطرسة عما كانت عليه سابقاً، حيث عمليات الفرهدة للمال العام والمناصب والمفاصل الحيوية للدولة، قد جعلهم عاجزون على الإصغاء لتحذيرات دول وقوى عظمى كما جرى للملك الفيدرالي في أربيل، فالنكبة تجمعنا من الفاو لزاخو.
جمال جصاني
منكوبون من الفاو لزاخو
التعليقات مغلقة