أندرو جيه. تابلر
كان من الضروري نشر بيان مشترك حول محادثات السلام بين الولايات المتحدة وروسيا بشكل سريع وذلك للتأكد من أن الوجود الإيراني المتزايد في البلاد لن يؤجج عودة الجهاديين.
في الحادي عشر من تشرين الثاني/نوفمبر، قام الرئيس ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين بإصدار بيان مشترك حول سوريا من مدينة دانانغ الفيتنامية حيث أعربا عن رضاهما عن المساعي المشتركة المعززة التي بذلت مؤخرًا لتجنب النزاع القائم. وذكر البيان أن هذه المساعي «سرّعت بشكل جذري الخسائر التي مني بها تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») على أرض المعركة خلال الأشهر الأخيرة»، ليستعرض بعد ذلك سلسلة من الخطوات التي بدأت شهر تموز/يوليو الفائت بهدف بتّ الحرب السورية.
إلا أن المعركة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» لم تنتهِ بعد بالرغم من الانتصارات التي سُجّلت على التنظيم في الموصل والرقة. إذ لم تعالج أيٌّ من الظروف التي أدت إلى قيام هذا التنظيم الجهادي، وأبرزها الدعم الإيراني للحكّام المستبدين كالرئيس السوري بشار الأسد والتوسّع السكاني الذي شهدته المناطق السنية الريفية المهمّشة. ومن الضروري الحفاظ على المكاسب المحققة في المعركة ضد «داعش» للحؤول دون معاودة تشكّل التنظيم كقوة متمكّنة. وقد أشار وزير الدفاع جايمس ماتين في تعليقٍ له تلى البيان المشترك إلى أن الولايات المتحدة لن تنسحب من شرق سوريا إلا متى باتت هزيمة «داعش» واضحة ودائمة. وصرّح للمراسلين الصحفيين قائلاً: «سوف نحرص على تأمين الظروف المؤاتية للحل الدبلوماسي»، وأضاف أن الهدف على المدى القصير يتمثل «بنزع السلاح من منطقة ومن ثم نزعه من منطقة أخرى، والاستمرار على هذا المنوال ومحاولة اتخاذ الخطوات التي تسمح للناس بالعودة»
إيران في شرق سوريا
مع ذلك، تحجب المسائل الاستراتيجية آفاق التسوية الدبلوماسية المستدامة. فإذا ألقينا نظرة عن كثب على القوى التي تقاتل فعليًا تنظيم «الدولة الإسلامية» في شرق سوريا، نكتشف أن أكثر من 80 في المائة منها مدعوم من الحرس الثوري الإيراني على حد ما جاء في التصريحات العلنية الأخيرة الصادرة عن مستشار الأمن القومي هربرت رايموند ماكماستر. ومع أنه من الحكمة أن تتجنب الولايات المتحدة خوض أي ضربٍ من ضروب الحرب مع روسيا، إلا أنه لا يجدر بالسياسة الأمريكية أن تسمح لروسيا بإحكام القبضة الإيرانية على سوريا. فالفيديوهات التي تصوّر الميليشيات الشيعية وهي تحرر مدينة البوكمال الحدودية ذات الغالبية السنية الساحقة كانت محط إشادة من قبل وزارة الدفاع السورية باعتبارها انتصارًا جديدًا يحققه الأسد في محاولته استعادة «كل شبر» من الأراضي السورية، أي بمعنى آخر تحقيق نصر عسكري كامل.
إنّ اتفاقية تخفيف حدة التصعيد الموقعة بين موسكو وواشنطن وعمان في السابع من تموز/يوليو – وليس المساعي الأمريكية والروسية لفض النزاع – هي التي فتحت الباب أمام الرئيس الأسد وإيران – لا أمام المعارضة المعتدلة – لقيادة المعركة ضد «داعش». وصحيحٌ أن تراجع الدعم العسكري الأمريكي للثوار نتيجةً لتلك الاتفاقية أدّى إلى الحد من إراقة الدماء وتحسين إمكانية نفاذ المساعدات الإنسانية إلى تلك المنطقة، إلا أنه خلّص نظام الأسد من أحد التهديدات المحدقة به. فالجنوب السوري تحديدًا هو الطريق الاعتيادي للاجتياح نحو دمشق، وهو نقطة ضعف لدى الأسد سيما وأن جريمة تعذيب المراهقين هناك هي التي أطلقت شرارة الحرب الأهلية السورية منذ ستّ سنوات. في المقابل، أتيح لجحافل الأسد المدعومة من إيران أن تنتشر على مساحة غير مسبوقة من الأراضي السورية، وهي مساحة تنوي طهران تحويلها إلى «جسرٍ بري» بهدف توسيع جسرها الجوي نحو مطار دمشق.
وإذ أقرّ بيان الحادي عشر من تشرين الثاني/نوفمبر بمخاطر هذا التوسع الإيراني، فقد «رحّب» بمذكرة المبادئ التي وقّعتها الولايات المتحدة وروسيا والأردن قبل ثلاثة أيام للاتفاق على «تقليل عدد القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب حتى الجلاء النهائي لها» من جنوب سوريا. لكن الجهود المبذولة منذ صيف 2017 لإخراج الجماعات المدعومة من إيران من حدود الجولان – عبر تنفيذ اعتداء كبير على القوات الإسرائيلية خلال الحرب – أرجعها للأسف قرابة الستة أميال فقط إلى الوراء وفق ما أفيد. وهذا ليس الطوق الأمني المطلوب لتهدئة المخاوف الإسرائيلية من قيام جبهة أخرى في محافظة القنيطرة تكون مشابهة لجبهة جنوب لبنان. ومن المستبعد أيضًا تطبيق مبدأ «التقليل حتى الجلاء النهائي» نظرًا إلى دعم الأسد للوجود الروسي والإيراني في البلاد، في الوقت الذي لم تحظَ فيه القوات الأمريكية وحلفاؤها بأي دعوة مماثلة وبالتالي فهي لا تتمتع بالسلطة اللازمة لضمان مصالحها. وهذا خللٌ لا بد من معالجته.
بالنظر إلى الضعف الشديد الذي أصاب الجيش العربي السوري جرّاء الحرب، فإن بقاء الأسد في السلطة سيعني تواجدًا كثيفًا لإيران في المستقبل المنظور. والأبرز في هذا السياق هو أن البيان الأخير يصف قرار مجلس الأمن رقم 2254 بالسبيل إلى السلام، ولكن هذا القرار يفتح أمام الأسد عدة طرقٍ للبقاء في الحكم، وهذه حصيلة لا يجدر بواشنطن قبولها.
هذا والموقف الرسمي الأمريكي متجذّر في بيان جنيف الذي تم التفاوض عليه في حزيران/يونيو 2012. لكن تلك الوثيقة تفتح المجال ضمنيًا أمام الأسد للبقاء في السلطة، حيث نصّت في جزئها الثاني على أن إحدى «الخطوات الرئيسية» «لأي تسوية» للأزمة تتمثل بتشكيل «هيئة حكم انتقالية» تمارس «كامل السلطات التنفيذية» وتهيّئ «بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية»، و»يمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة». فقد شجّع هذا الغموض روسيا على إتاحة إشراك الأسد في هيئة الحكم الانتقالية مع الحفاظ على التزامها بالبيان فيما شجّع الولايات المتحدة على التصدي لذلك. ومن هنا، فإن الهدف من المحاولات الروسية لتنظيم عمليات موازية في أستانا وسوتشي ليس التحايل على جنيف بقدر ما هو استغلال هذه الثغرة. أما قرار مجلس الأمن 2254 فيشتمل من جهته على بيان جنيف إنما يضم أيضًا خطوات كانت سابقًا خطة إيرانية من أربع نقاط وهي: وقف فوري لإطلاق النار، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء تغييرات دستورية، وإجراء انتخابات تحت المراقبة.
الانتخابات السورية والدور الأميركي
ينص بيان الحادي عشر من تشرين الثاني/نوفمبر على «انتخابات حرة وعادلة تحت إشراف الأمم المتحدة تستوفي أعلى معايير الشفافية الدولية وتشمل جميع السوريين بمن فيهم الجالية المؤهلة للمشاركة في الانتخابات». لكن المشكلة هي أن القانون الذي يرعى الانتخابات السورية لا يجيز حاليًا التصويت إلا للمواطنين الحاملين تأشيرات خروج صالحة، أو لأقلية من المواطنين الذين لاذوا بالفرار خارج الحدود السورية خوفًا على حياتهم.
وعلى النحو نفسه، يجب على واشنطن أن تضغط على موسكو لحث حليفها السوري على اعتماد قانون انتخابات تحرري يتيح لكافة المواطنين السوريين في بلدان الاغتراب أن يشاركوا في التصويت. وفيما تشارف جولة جديدة من محادثات جنيف على الانطلاق في 28 تشرين الثاني/نوفمبر في أعقاب لقاء للمعارضة في الرياض، ينبغي على الولايات المتحدة أن توضح أنها لن تؤيّد أي عملية انتخابية يشارك فيها الأسد بما أن هذا التأييد يمنحه ضمنًا الشرعية، وإلا كان فوز الأسد مضمونًا وحافظت إيران على مكانتها القوية في البلاد. وسوف تزيد هذه العوامل احتمال حدوث اشتباكات إيرانية إسرائيلية في المستقبل وتعيق الاستقرار الوطني وتعزز الظروف التي أتاحت تنامي تنظيم «الدولة الإسلامية» في المقام الأول.
*تابلر هو زميل «مارتن غروس» في برنامج معهد واشنطن حول السياسة العربية.