د. عبد اللطيف جمال رشيد
يغور العقل عميقاً وهو يحاول التقاط أول ذكرى تعنُّ له، حين يذكر اسم الراحل الدكتور مهدي الحافظ.
ففي تلك الاغوار البعيدة تعود الذكرى الأولى الى نهاية خمسينيات القرن الماضي، وقد سمعت في حينه أن الحافظ يرأس إتحاد طلبة العراق، في زمن حكم عبد الكريم قاسم.
وتمضي بعد ذلك سنين طويلة، لم نلتقِ خلالها لانشغال كلينا بالعمل اليومي، والمشاغل المستمرة بين دراسة أكاديمية، وحراك سياسي، الى أن جمعتنا في عام 1990مواجهة الديكتاتورية، واستبداد الحكم البعثي تحت مظلة المعارضة العراقية، وتأسيس المؤتمر الوطني العراقي. وكان(رحمه الله) قد اختص بعلم الإقتصاد ونال فيه درجة الدكتوراه.
ومذ ذلك الحين إستمرت علاقتنا وتوطدت على أكثر من صعيد، فعرفت في شخصيته خصالاً متنوعة، قد يكون أولها السياسة، والعمل الحكومي، وليس آخرها الإهتمام بالأدب والفن، وسوى ذلك كثير.
عرفتُ فيه السياسي الليبرالي، الحالم بوطنٍ يُبنى على أساس العدالة والحرية والمساواة، وطنٍ خالٍ من كل أشكال الفساد والرجعية، وينعم فيه الجميع بالرخاء والأمان، فيما لو تحققت دولة المؤسسات، واعتمدت الأساليب الحديثة في بناء الركائز الأساسية لقيام الدول، والمجتمعات المتحضرة.
وقد كان الأمر كما لو كان أراد، فالتقينا ثانية في عمل حكومي مشترك هذه المرة، ولم نفترق هذه المرة الى يوم رحيله، إذ تولى هو منصب وزير التخطيط، وتوليت أنا منصب وزير الموارد المائية في أول وزارة شكلها رئيس الوزير العراقي الأسبق أياد علاوي عام 2004 بعد عام من سقوط النظام.
وقبلها أصبح هو الرئيس الاول للهيئة الاستراتيجية لإعادة الاعمار في العراق 2003 – 2005. ولكن الأمور كانت أقوى من مقدرة الرجل، والظروف كانت على الضد من الإرادات، فلم يتسنَ له (ولنا جميعاً) إنجاز الحلم وتحقيق ما كنا نصبو اليه، لما مرّ به العراق آنئذٍ من مشكلات وصراعات إقليمية ودولية، وساحة لتصفية الحسابات على أرضه، فضلاً عن غياب شبه كامل للبنى التحتية وتفكك مؤسسات الدولة وانعدام الأمن.
حفلت حياة الدكتور مهدي الحافظ بالعديد من الإنجازات على الصعيدين العملي والفكري، لعلّ أبرزها أنه مثل العراق كوزير مفوض في الأمم المتحدة لمدة سنتين، ومدير إقليمي لمنظمة الامم المتحدة للتنمية الصناعية UNIDO والمستشار الخاص للمدير العام للمنظمة نفسها، كما ترك العديد من المؤلفات العلمية في شتى المجالات كالنفط، والطاقة، والسياسة، والإقتصاد، والتنمية البشرية وغيرها.
ويكفي أنه خلال ترؤسه «معهد التقدم للسياسات الانمائية» قد رفد الساحة العلمية العراقية – كل أسبوع تقريباً- بكم كبير من البحوث والحلقات النقاشية، وأسهم في تقديمها، وعلى مدى الأعوام المنصرمة، وزراء، وخبراء، ومختصون، وسياسيون، وإعلاميون، في حقول الطاقة، والتنمية، والمال، والتجارة، والمياه.
وكما ذكرت فالدكتور مهدي الحافظ كان من محبّي الفنون والآداب، حريصاً على متابعة النشاطات الفنية، وحضور فعالياتها كلما سنحت له الفرصة، كما كان هادئاً حلو المعشر، لطيفاً، غير ميًالٍ الى الإسراف والمبالغة في أسلوب حياته، وكان لصوته الرخيم نفاذٌ سريع في سمع وقلب من يتحدث اليه.
رحم الله الدكتور مهدي الحافظ الإنسان، والسياسي، والوزير، والنائب. هل سأزيد شيئاً إن قلت أننا قد خسرنا قامةً إقتصادية كبيرة، وسياسياً بضميرٍ حي؟ نعم لقد خسرنا عقلاً كبيراً، وكفاءة نادرة، سنفتقده كصديق، ورفيق مرحلة مهمة من الزمن، وسنفتقد بغيابه تلك الجلسات الإجتماعية والمهنية الحميمة، وسينصفه الناس والتاريخ على كلِّ ما قدّم، فقد عمل بكل جدٍّ وهمة على أن يأخذ العراق دوره بين بقية دول العالم كما يستحق، وأن ينال شعبه من الخيرات التي يعوم عليها إن عاجلاً أو آجلا.