د.مهدي محسن العلاق
كانت أياماً ثقيلة تلك التي القت بثقل تبعاتها أبان سقوط النظام البائد، فقد فشلت القوى التي احتلت ارض بلادنا الغالية في حفظ النظام دون أدنى ترتيب مسبق لإدارة مفاصله.
كنا نقف على اطلال مكاتبنا المحروقة في مبنى وزارة التخطيط، مثلما قطعت آمالَنا، بعد التحرر من الدكتاتورية والطغيان، موجاتُ العبث بمرافق الحياة في العاصمة بغداد، وفي المدن الأخرى، هو ردُّ فعلٍ لعقود الكبت والظلم والحرمان.
اختلطت فيه مشاعر الفرح، بعبث انفار من السراق ومن الجهلة، ومرّت أسابيع أُفرغت غالبية مؤسسات الدولة من موجوداتها، فضلا عما أصابها من حرق وتدمير، غير ان مجاميع طيبة من أبناء مجتمعنا، بدأت تلملم شتات آمالها، وتستثمر دعما هنا ونخوة هناك، في محاولات لإعادة بعضٍ من توازن مفقود.
في الأيام الأولى من عقد الندوات والمؤتمرات، استضافت احدى قاعات نادي العلوية ببغداد، ندوة حول سبل النهوض بالواقع الاقتصادي، أدارت الحوار فيه، وعرض الأوراق المقدمة نخبة من الأكاديميين والمهنيين تخللتهُ صيحات استهجان لمشاركة بعض منهم.
لأول مرة التقي بالراحل الدكتور مهدي الحافظ، وانصتُ الى مداخلته، كان جالسا بين الصفوف، فوقف معقبا، أذكر من ذلك نقده لأسلوب إدارة البلد، وضياع خارطة طريق واضحة، كان يتكلم بثقة وصلابة، لم يجامل المتصديين للعملية السياسية، وهو يشخص أخطاء كبيرة، ما كان ينبغي لها ان تحصل.
ومرّت الأيام، وقد بدأت جهود إعادة الحياة تدير عجلة العمل ببطء، في وزارة التخطيط، ربما كنا سباقين للنهوض من جديد، ساعدَنا في ذلك سيل من العروض من منظمات دولية، وبرامج إعادة تأهيل سريعة، وبناء قدرات لملاكات مؤسسات الدولة، ونجحنا في تأمين مواقع عمل في مبانٍ عدَّهَ، وكان للدور المتميز لمنسق وزارة التخطيط ابان فترة سلطة الائتلاف بين مايس 2003 و2004 الدكتور محمد علي الحكيم، الأثر الكبير في تحريك أجواء العمل.
وحين أعلنت الحكومة المؤقتة، كان اسم الدكتور مهدي الحافظ يندرج تحتها وزيراً للتخطيط.
كنا في الجهاز المركزي للإحصاء، على وشك الانتقال الى مبنى ذي طوابق خمس، استأجرناه قبل نهاية عام 2003، في عرصات الهندية، ولم نشغله الاّ بعد شهور من عمل مستمر لتأهيله، فالجهاز هو المؤسسة الأكبر في الوزارة، وان توفير مبنى له، يخفف من معاناة ضيق المكان.
ذهبتُ لزيارة الدكتور الحافظ رحمه الله بعد مباشرته العمل، وكان مكتبه في مبنى المركز الوطني للتطوير الإداري قرب ساحة الاندلس، حييتهُ وبادلني كلمات مودة، وأشاد بما سمع من إنجازات للجهاز، بعد شهور من مباشرة العمل صيف عام 2003، وتجاذبنا أطراف الحديث حول إمكانية تنفيذ تعداد عام للسكان، وقبل ان اغادر سألني عن المبنى المؤجر للجهاز، وقال مبتسما ان هذا المكان غير مناسب للعمل، وبتواضع أردف، ايمكن ان نأخذ الطابق الخامس من مبناكم لمكتب الوزير؟ ورحبت بالفكرة على الفور، وهكذا جاورته في الطابق شهوراً، قبل ان يضيق بنا المكان مرة أخرى، مع إعادة تفعيل دوائر الوزارة.
كان الدكتور الحافظ متصديا لمهام إعادة الاعمار في العراق، وكانت سكرتارية اللجنة العليا تعقد اجتماعات مستمرة، ووفود الدول والمنظمات تتعاقب في الحضور الى مكتب الوزير، فضلا عن لقاءاتها بنا، وكلاء، ورؤساء دوائر.
في احد الأيام اخبرني مدير مكتب الدكتور مهدي الحافظ انه يريد التداول معك بسرعة، دخلت عليه، وكان يبدو عليه الغضب، سألني وانا واقف، ما الذي تَصّرح به في موضوع استمارة التعداد المقترح من ادراج حقول تتعلق بالطائفة و المذهب، ومن الذي يدفع بهذا الاتجاه؟ واجبته على الفور، وقد شعرت بحزن كتمته فقلت له، عفواً ان من تقوّل ذلك عليّ مُغرضٌ كاذب، قال كيف؟ وحينها شرحت له حادثةً، ربما أوردتها في مناسبة سابقة، إذ استضافني بعض القادة السياسيين، وطلبوا مني توضيحات حول استمارة التعداد، وضرورة ان تتضمن تفاصيل الديانة والقومية والمذهب. وكنتُ صريحا معهم في اصراري كرئيس للجهاز المركزي للإحصاء ان ننأى به عن اثارة مثل هذه الأسئلة، في ظرف اجتماعي وسياسي حساس، وهو ما ينسجم مع توصيات المنظمات الدولية المختصة، لم يقتنعوا بذلك، مشيرين الى انهم ليسوا طائفيين، لكن جزءًا مما ابتلي به البلد تاريخيا هو التهميش والإقصاء، قلت لهم ان كنا نسير فعلا على طريق الديمقراطية، فان صناديق الاقتراع كفيلة بإظهار حقوق تمثيل المكونات المتعددة، لم يُجْدِ الحديث معهم، ووعدوا ان نناقش ذلك مرة أخرى.
بعد أيام، اتصل بي أحد المشاركين في الجلسة المذكورة، وقال لي ان وفداً من الاخوة زاروا المرجع الأعلى السيد السيستاني، وانهم يؤكدون ان سماحته مع إضافة هذا السؤال، فشعرتُ بحرجٍ شديد، وإذ تشرفت بلقاء السيد الكبير قبل شهور من ذلك بمعية الدكتور الحكيم، ووقفت على بعض من متبنياته، لم أتردد في طلب لقائه.
في اليوم التالي كنت عند المرجع، وعرضت امامه ما جرى من حديث مع الاخوة السياسيين، وما نقلوه عن سماحته، بيّن بهدوء، انهم جاؤوا وطرحوا مقترحهم، وأجبتهم بأنني اذ احترم وجهات نظركم، لكنني لا اطلب إضافة سؤال عن المذهب، فِرحتُ وانحنيت لأقبل يده الشريفة.
ثم استطرد نجله العلامة السيد محمد رضا قائلاً، لقد بينا للأخوة ان ظرفنا لا يسمح بتعقيد المواقف، واشغال الناس. وكان الدكتور الحافظ ينصت لي بارتياح بادٍ، وما ان أكملت حديثي وكنت اتحدث بحدّة، حتى ابتسم واعتذر، وكانت تلك الدقائق نقطة تحول في علاقتي به.
صار يطيل الحديث معي بين مدة ومدة أخرى، ويعهد اليّ بمهام كثيرة، مشجعاً كل جهد ينجزه الجهاز، ويشيد به.
لقد أضاف بما يحمل من صفات الرصانة والتركيز، ألقاً لعمل الوزارة، مبدياً اهتمامه بالإرشادات العامة، من دون أي تدخل في تفاصيل عمل تشكيلات الوزارة.
ولعل الحدث الأبرز في تاريخ الوزارة على مدى سنين طويلة، نجاحه المتميز في عقد المؤتمر الاقتصادي العراقي في بيروت، لقد غصت القاعة بما يزيد على الف مشارك، وكان يعتلي المنصة هو وعدد ملفت من وزراء الحكومة المؤقتة ( كان من بينهم الدكتور حيدر العبادي، وزير الاتصالات آنذاك).
انتهت مدة الحكومة المؤقتة وودعناه، غير ان تواصلي معه لم ينقطع ابدا على مدى الاثني عشر سنة الماضية، سواء بحضور الندوات التي يقيمها في مركز الحوار، او في معهد التقدم للسياسات الإنمائية.
كنت مزهواً بتلك العلاقة الحميمة، وكان الراحل في غاية الطيبة، ودوداً، يديم التواصل معي على الهاتف، ويزورني حين كنت في الوزارة، او بعد ان انتقلت الى رئاسة مجلس الوزراء.
لم اجده متحمسا يوما، مثلما زارني حين أطلق السيد رئيس مجلس الوزراء حزمة الإصلاحات الإدارية والاقتصادية، وسلمني رسالة يحيي فيها هذا التوجه، ويبدي استعداده لدعم تلك الإجراءات.
وحين قرر السيد رئيس مجلس الوزراء تشكيل لجنة اختيار المرشحين لإشغال الوزارات لذوي الكفاءة والمؤهلات، وجه بان تكون اللجنة برئاسة الراحل الدكتور مهدي الحافظ، إيمانا بحياديته، وموضوعيته، وشخصيته المستقلة، وحين اتصلت به لأخذ رأيه لم يتردد الدكتور الحافظ في قبول هذه المهمة، وعمل مع اللجنة، حتى يوم تسليم ملف الترشيحات للسيد رئيس مجلس الوزراء.
أيها الراحل الكريم..
إذ قضينا شوطاً من عمرنا معك نستلهم مواقف متميزة بالنظرة السياسية الثاقبة الجريئة، وإذ وفيت بعهدك في خدمة بلدك، لم تُثنكَ الكبوات هنا وهناك، عن استشراف مستقبل زاهر للبلد، وإذ دعوتني دوما لمشاركة الندوات التنموية التي اقمتها، مقدما في بعضها لموضوع معين، او مستمعا في بعضها الاخر، اتشرف انني كنت اجيبك عن أسئلة كانت تدور في الذهن، لاسيما في مآل بعض القرارات، وفي سبل انجاحها.. ولم يعد سراً ان أقول انه كان يشعر بالوحدة والغربة، وسط معترك السياسة والعمل النيابي، لا اخفي أيضا انه كان قلقا من إدارة الجلسة الرسمية الأولى لمجلس النواب الحالي، لكنه قَبِلَ التحدي بثقة عالية. اتصل بي بعدها، وهو يضحك (رحمه الله) مستفسرا عن تقييمي لإدارة الجلسة، قلت له لا يمكن ان يكون الأداء افضل مما قدمت بهدوئك.
أستاذي الكبير
لقد كنت بين مدة ومدة أخرى تكبر فيّ العمل في رئاسة الوزراء، برغم التحديات في ظرف صعب واجهه البلد، وكانت عبارتك الجميلة الصادقة المتكررة (أي شلونك هسه انت زين)، التي سمعتها منه مراراً، مبعث حبٍ لن يمحى من الذاكرة.
لأهلك..لأصدقائك ..لمحبيك..لزملائك.. لمن عمل معك..اقدم التعازي.