هشام المدفعي
وأخيراً رحل الدكتور مهدي الحافظ، ورقد رقدته الأخيرة الابدية، بعد حياة مليئة بالكفاح والعمل الوطني الدؤوب.
وإذ يعزَ عليً ان أقف موقف المؤبن الراثي لمهدي الحافظ، فأني في حقيقة الأمر، أقف راثيا السجايا النبيلة، والخصال الحميدة، والمواقف الوطنية التي اتصف بها الفقيد، وناضل من أجلها طويلا، وخسر في سبيلها كثيراً.
رحل الحافظ بعد مسيرة حافلة بصور الوطنية، ومشاهد الدفاع عن حقوق الشعب، التي نذر نفسه لها منذ فترة مبكرة من حياته، عندما ولج العمل الوطني، ولقي ما لقي من عنف السلطات، وحقد الأعداء، وحسد المقربين، وجهل الكثيرين.
لقد استطاع مهدي الحافظ بدماثة أخلاقه، وطيب مجاملاته، وحسن تصرفه، أن يظفر بود الكثيرين وتقديرهم، وان يفوز بمكانة مرموقة بين أعلام السياسة، والاقتصاد، ورجال المال، فضلا على ما يتمتع به من مقدرة فائقة على حسن الاختيار.
تعرفت على فقيدنا الغالي عام 2003 عندما كنت في إجازة خارج العراق، بعد التغيير الكبير في آذار تلك السنة، فعرفت بنشأة تجمع ديمقراطي من عدد من الشخصيات المعروفة بثقافتها، وخبرتها السياسية، ونهجها المحايد، ومن بينهم الدكتور مهدي الحافظ.
وفي بغداد زرت مقر التجمع، وكان قريبا من داري، والتقيت بالحافظ، فوجدته صديقا للعديد من أصدقائي المؤمنين بالفكر الوطني، والمؤمنين بفكرة إعمار العراق، التي كانت ولم تزل أهم ما يدور في فكري.
لقد تبين لي ان الدكتور الحافظ، الشخصية العالمية ذو الخبرة الواسعة، وراء تكوين هذا التجمع، ومحوره الأساس، والموجه الاول لسياساته، وبفضله وجدت نفسي أميل الى هذا التجمع واهدافه.
استمرت صلتي بالفقيد الحافظ الى النهاية، وكانت لقاءاتنا الأسبوعية التي لم تنقطع لسنوات طويلة مع عدد من الشخصيات الفاضلة، تدور فيها أحاديث الذكريات والانطباعات والامنيات.
وكان -رحمه الله-يقدم خلاصة تجربته للحاضرين والسائلين، وكل حديثه يتوجه نحو عراق جديد.. نعم نحو عراق جديد.. وهذه العبارة بالضبط التي اختارها الحافظ لتكون اسما لمذكراتي.
كان الفقيد كثيرا ما يستمع لحديثي من خطط اعمار العراق، بعد ما تعرض له من دمار ونهب وتغيب، وقد نجحت بتشجيعي له الى الانتقال مما يسمى بالمنطقة الخضراء، والاستقرار في منطقة المنصور، في دار لا تبعد كثيرا عن داري، مما زاد من فرص اللقاء والتشاور.
وعندما قرر مهدي الحافظ تأسيس معهد التقدم للدراسات الانمائية، كنت واصدقاء مثلي من مرتادي المعهد، وحضور جلساته نصف الشهرية، التي جمعت نخبة كبيرة من الشخصيات العراقية المرموقة من اقتصاديين، ورجال اعمال، ومختصين، ومسؤولي المصارف والهيئات المالية، ومهندسين عاملين في تنمية العراق.
وكانت هذه الاجتماعات أحد منافذ الحوار المباشر بين المواطنين، والمسؤولين على تنوع وتعدد توجهاتهم. إضافة الى اصدار مجلة متخصصة باسم (حوار) أعدها من اهم الدوريات الصادرة في السنوات الأخيرة.
لقد تحقق بعض من حلمه في عراق جديد، عندما انبثق برلمان ممثل لشتى شرائح المجتمع العراقي، وقد أسهم الفقيد في هذا البرلمان كنائب مستقل، وطرح على المجلس الكثير من الأفكار السليمة والحلول الواقعية، لقد تحقق حلمه بانتخابه رئيسا للبرلمان العراقي لمدة محددة، وكونه أكبر النواب عمرا.
لقد نظر الدكتور مهدي الحافظ الى الحياة بعين متفتحة دائما، وكافح بلا هوادة ضد الطائفية والعرقية، وهذا ما سبب له خلافات مع بعض السياسيين الحزبيين، عندما أراد ازالة الفكرة الطائفية من قاموس السياسة العراقية.
وحاول إدخال نمط الحياة المتطورة في اسلوب معيشته، مع دعوته المستمرة على تطور مفهوم التطور الاجتماعي في المدن العراقية، والاختلاط مع المواطنين في كل مكان، لمعرفة ما يجري بين الناس على سجاياهم، ومستويات تفكيرهم، كان قريبا من المواطنين الذين بادلوه الود والاحترام، في كل مكان زرناه معا.
من محاسن الأيام، أن يقوم الحافظ بكتابة بعض ذكرياته في سوح النضال، من أجل حياة كريمة لجميع ابناء الشعب، ولاسيما الطبقات المسحوقة التي عشق الدفاع عنها منذ فتوته في منطقة (الشامية) في الفرات الاوسط التي ينتمي اليها ونشأ فيها. ثم دخوله الحركة اليسارية الثورية، ووصوله الى مناصب قيادية فيها، حتى تخليه عن الانتماء الحزبي، واعتناقه فكرة بناء العراق الواحد، وبناء دولة ديمقراطية، تضم العراقيين جميعا.
الحديث عن فقيدنا العزيز الدكتور مهدي الحافظ حديث طويل، ولعل المنصفين من مؤرخي تاريخنا الحديث، سينظرون الى الحافظ ودوره السياسي والاقتصادي نظرة تجلة وتقدير. وسيكون موضع احترام الجميع في كل وقت.
الخلود للدكتور مهدي الحافظ، والذكر الحسن لذكراه اليوم وغدا، وعزائي الكامل لأسرته الكريمة ورفاق دربه وعارفي فضله.