دروس علمنيها الدكتور مهدي الحافظ

عبدالزهرة محمد الهنداوي:

« ليس بمقدور الانسان ان يغطي جميع الاحداث والوقائع في حياته، عندما يروم ان يسجل نوعا من الذكريات، او بعضها، ولذلك يكتب احيانا هذه الذكريات موجزة، او محددة بمعنى انها لا تفي بهدف الاكتمال كما يرى البعض».
بهذه الكلمات المعبرة الواضحة كتب المرحوم الدكتور مهدي الحافظ، الذي غادرنا إلى الملك الاعلى في الاول من تشرين الاول من عام 2017.
مقدمة اخر كتاب اصدره وحمل عنوان (محطات في حياتي)، وكأنه يلتمس العذر من الاخرين الذين يطالبونه ويعتبون عليه في عدم توثيق كل ما يحمله من تاريخ حافل بالأحداث الكبيرة، والتي تركت اثرا كبيرا على المستويين الوطني والدولي. كان يريد ان يقول اعذروني، ان لم اتمكن من كتابة كل ما تحت جنباتي، فهو كثير، وساعات الحياة لن تكفي للبوح به.
وهكذا تنبأ فقيدنا الكبير بأن محطته الاخيرة ستكون قريبة، اذ سيترجل من على صهوة جواده، بعد ان خاض غمار الكثير من المعارك في جميع الأصعدة، وفي كل معركة كان يخرج منها منتصرا.
مهدي الحافظ لا يعرف الاستسلام او الوهن، يتحدى الواقع بشجاعة الفرسان، فهو ابن الشامية، مدينة العنبر، فتح عينيه بين حقول «الشلب» المترامية في تموز عام 1937 فحمل معه تلك الطيبة التي تشبه رائحة العنبر، ومع الطيبة، حمل ايضا قوة الشكيمة ومواجهة التحديات، ومن الشامية وعنبرها وطيبة أهلها، انطلق إلى العوالم الأخرى، حاملا معه هموم وآلام ابناء شعب، ليحلق عاليا في سماء العلم والنضال والجهاد الحقيقي، فأمضى حياته مناضلا، تشهد له الساحات والمعتركات.
لست هنا بوارد الخوض في سيرة حياة الدكتور مهدي الحافظ الذي ترجل من على صهوة جواد الفكر والبناء مستعجلا الرحيل وما زال لديه الكثير من العطاء، فسيرته ومسيرته اكبر، واوسع من ان احيط بها من خلال هذه السطور القليلة المرتبكة. فأي جانب من جوانب حياته يمكنني الخوض فيه .. فهو المناضل، وهو الاكاديمي، والسياسي المحنك، والدبلوماسي والخبير الدولي، والوزير، والكاتب، والباحث والمفكر والانسان .. الخ .
ولكن اردت ان اكتب شيئا عن السنوات التي قضيتها قريبا من الدكتور مهدي الحافظ، وما تعلمته منه من دروس مهمة في الحياة، فقد التقيته لأول مرة في نهاية عام 2004 عندما تسنم مهامه وزيرا للتخطيط، وكنت لأول مرة التقي بوزير من وزراء العهد الجديد، وفي اول لقاء منفرد جمعني به، طلب مني ان انجز عملا ما، ولم اكن مقتنعا به لعدم امكانية تنفيذه، فأظهرت عدم قناعتي بحركة جسدية رافقت امتثالي للأمر، فقرأ هو ذلك، موجها سؤاله لي : لماذا انت غير مقتنع بالأمر ؟ قلت له وانا افكر بحقبة ما قبل عام 2003 ، بل انا مقتنع وسأنفذ الامر، قال انت غير مقتنع، ولابد ان تخبرني عن اسباب عدم قناعتك.
امتثلت مرة اخرى وأخبرته بالأسباب، اقتنع بما اخبرته، من دون ان يترك معرفة عدم توضيح الأسباب، قلت له: انت وزير فكيف لي ان اقول للوزير كلا؟، في تلك اللحظات تلقيت الدرس الاول منه، عندما قال: هنا تكمن مصيبة العراق، عندما يقول الوزير او المسؤول كلاما او يأمر امرا فعلى الاخرين تنفيذه بصرف النظر عن النتائج والتداعيات، وهكذا ضاع البلد، .. ومنذ تلك اللحظة كنت اصارحه بكل شيء، وفي كل مرة اتعلم منه درسا جديدا.
وعلى الرغم من ان وجوده في وزارة التخطيط لم يدم طويلا، الا انه تمكن من التأسيس للكثير من السياسات التنموية السليمة، فقد نجح في الحفاظ على بقاء وزارة التخطيط، عندما كانت سلطة الائتلاف المؤقتة تريد الغاءها، لعدم وجود وزارة نظيرة لها في الولايات المتحدة الاميركية، فوجد الحل في تغيير اسم الوزارة، من وزارة التخطيط، إلى وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي، واقنع الأميركان ان الوزارة لها مهام اخرى غير التخطيط، فهي معنية بتطوير التعاون مع بلدان العالم، وانها تعنى ايضا بقضايا التنمية بجميع تفاصيلها.
لكن الذين جاءوا بعده، وبعد ان رحل الأميركان، قرروا اعادة الاسم القديم للوزارة عام 2010 .
كما نجح الحافظ وبعد جهود كبيرة من تأسيس وترؤس اول هيئة وطنية لاستراتيجية الاعمار في العراق، محاولا اعادة العمل بمبدأ مجلس الاعمار الذي تأسس عام 1950 لغاية 1959، ونجح في حشد الكثير من المواقف الدولية الداعمة للعراق، تمخض عنها انعقاد مؤتمر مدريد للدول المانحة عام 2004 وما نتج عن ذلك المؤتمر من حصول العراق على منح، واعانات دولية سخية.
تلت ذلك المؤتمر عدة مؤتمرات أخرى، من بينها مؤتمر طوكيو، ومؤتمر الدوحة، وقد رافقته في بعض من تلك المؤتمرات، ولم تتوقف جهوده وهو ما يزال وزيرا للتخطيط، فقد بذل جهودا كبيرة في معالجة ملف الدين العراقي المتضخم بسبب سياسات، وحروب النظام السابق، وحقق نجاحا كبيرا في تسوية الكثير من الديون التي كانت تثقل كاهل الاقتصاد العراقي.
وعلى الرغم من صعوبة الظروف التي كان يواجهها العراق في تلك الفترة، الا ان الحافظ كان يسعى بقوة لإجراء التعداد العام للسكان، مقدرا اهمية هذا المشروع لدعم التنمية، من خلال ما يوفره من بيانات تنموية مهمة، من شأنها مساعدة المخططين، وراسمي السياسات الاقتصادية، من وضع الخطط التنموية السليمة، الا ان الخلافات السياسية، وغياب التوافق حال دون تنفيذ هذا المشروع الحيوي.
كان الحافظ يمتلك رؤية ثاقبة للواقع التنموي بفضل خبرته الكبيرة وما يحمله من تأهيل علمي (دكتوراه في الاقتصاد)، ولو قدر له ان يستمر في ادارة ملف التخطيط والاعمار في العراق لسنتين اخريين، لكان الوضع مختلفا تماما عما الت اليه مسارات الاحداث بعد ذلك.
رافقت الحافظ في العديد من سفراته إلى خارج العراق، وكنت اتلمس ذلك الاهتمام بشخصه من قبل الاخرين، كما كان يقاتل من اجل ايصال صوت العراق إلى الاخرين..لم يدم بقاؤه في الوزارة طويلا، فقد دفعت به المحاصصات بعيدا خارج المنظومة الحكومية، في وقت كان البلد في احوج ما يكون لرجل مثله، الا انه لم يتوقف او يهن، انما واصل نضاله من بوابات أخرى.
كان محط اهتمام المرجعيات الدينية، ولم تنقطع علاقتي بالدكتور مهدي الحافظ، فبعد خروجه من الوزارة، فاتحني بمشروع فكري يتمثل بافتتاح مركز للحوار والتنمية، فكان ذلك في شهر مايس 2005 عندما افتتحنا المركز العراقي للحوار والتنمية ثم تحول اسمه إلى معهد التقدم للسياسات الانمائية، واصدرنا مجلة الحوار، لأتولى انا ادارة تحريرها منذ العدد الأول، حتى صدور العدد الخامس والخمسين الذي صدر قبل رحيله بأسابيع قليلة، فضلا عن اصدار العديد من المطبوعات، والكتب، والنشرات عن المعهد.
كان الدكتور الحافظ حريصا جدا على مواصلة شوطه حتى اللحظات الاخيرة من حياته، فقبل ان يغادرنا بأيام، تحدث معي عن العدد الاخير من مجلة الحوار، وما هي المواد التي سيتضمنها، قلت له عندما تتماثل للشفاء سيكون كل شيء على مايرام .. ولكن .. سافر حاملا حقيبته المليئة بالكثير من الافكار والمشاريع والهموم، وهناك قرر ان ينيخ رحله، مستريحا من عناء سفر طويل، ومحطات كثيرة لم تكتمل.
طرق ابواب الاقتصاد بقوة، فكان قامة اقتصادية يشار لها بالبنان من خلال الكثير من الطروحات، والمقالات، والمؤلفات، والندوات، والمؤتمرات في مشارق الارض ومغاربها، فضلا عن اسهامه الواضح في اعداد الخطط الخمسية، وكتابة تقارير التنمية البشرية وتقييمها.
واخر اسهام له كان في المؤتمر الاول لخطة التنمية للسنوات 2018- 2022 في أربيل، حيث خلال المؤتمر ورقة كانت تحمل الكثير من الجرأة، وقد اثارت جدلا كبيرا في اروقة المؤتمر، كما طرق ابواب الفكر، وخاض في السياسة، خوض المتمرسين المحنكين .
واذ اكتب هذه السطور الحزينة، فانا على يقين انني لن أفيَ الدكتور الحافظ حقه، ولكن ان هي الا مشاعر جاشت، فسطرتها كلمات مرتبكة فوق اديم الورق.
برحيل الدكتور مهدي الحافظ، نكون قد خسرنا وخسر العراق فارسا من فرسانه الكبار، (ما كنت اعلم وهو يودع في الثرى .. ان الثرى فيه الكواكب تودع ..جبل ظننت وقد تزعزع ركنه .. ان الجبال الراسيات تزعزع .. وعجبت ان تسع المعرة قبره.. ويضيق بطن الارض عنه الاوسع) .. انا لله وانا اليه راجعون

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة