أدونيس
-1-
دمارٌ وموتٌ هما نهارُ غزّةَ وليلها.
إنها الشهيدة والشاهدة.
الأنظمة العربية…
كلٌّ يتمترس وراء قلعته الخاصّة.
كلٌّ غارقٌ في حربه الخاصّة.
هكذا، ليس لغزّة مَن يواكبها في هذه اللحظات من تاريخها غير التاريخ.
– 2 –
«من الممكن أن تصبح مجرماً، لذلك يجب قتلك تلافياً لهذا الإمكان »: هكذا يُخاطَبُ العربيّ في تلك «المدرسة» التي يديرها الفكر السياسيّ الأميركيّ – الأوروبيّ الإسرائيليّ.
فكرٌ يحبس العرب في قمقم أهوائه ومصالحه.
كم هي عاليةٌ هنا درجة الاستخفاف والازدراء.
بلى. لقد صار «مستقبل » العرب مرهوناً بمدى جرأتهم وقدرتهم على القول: لا ! لتاريخهم السياسيّ كلّه، وبخاصّة في جوانبه الماضوية، الثقافيّة والاجتماعيّة.
وفي جميع الحالات يحسُن بكل عربيّ أن يخجل من حاضره عندما ينظر إلى وجهه في مرآة العالم الحديث، بعد أن ينظر إليه في مرآة «الجامعة العربية »، و« الأنظمة العربيّة».
– 3 –
يتوافق الإرهاب كلّيّاً مع النّزوع الأمبراطوريّ الاستعماريّ الجديد، ومع رؤاه ومخطّطاته. وقد ابتكر قادةُ هذا النّزوع قناعاً جذّاباً للإرهاب: «الفوضى الخلاّقة».
وفي ذلك ما يعني، ضمناً، أنّ الاستعمار هو نفسه «العمل أو النّظام الخلاّق».
يساعد الإرهاب في إيجاد مناطق لعدم التوازن، تُستَخدَم لتسويغ حربٍ دائمة، متنقِّلة، متنوِّعة، مكشوفة حيناً، ومقنّعة حيناً.
الأصوليّات الإسلاميّة تقدّم المادّة الحيّة و «التقنيّة» لخلق هذه الحالة على المستويين الإقليمي والعالمي. وهي اليوم الأداة الفعّالة الأولى في هذا المجال. كمثل ما كانت أداةً فعّالة في محاربة الشيوعيّة.
كلاّ، لا تكمن أسرار المشكلات العربية في ثقافة التخلّف العربيّ، وحدها. وإنما تكمن أيضاً في ثقافة «التقدّم الغربي» – ثقافة تُجّار الطّاقة، وأهل العسكرة وصناعة السلاح، والمخابرات والتجسّس، والمرتزقة، والمتاجرين بالبشر، بيْعاً وشراءً.
ثقافة القضاء على الثقافة.
ثقافةٌ لقتل الإنسان.
– 4 –
أتذكّر القرون الوسطى. أعيد قراءة بعضٍ من فصولها. خصوصاً تلك «الربيعيّة». أتخيّل أحداثاً. وقائع. مشاهد. أرْتَال الرقيق، مايا الآنكا، الآزتيك. الهنود الحمر في القارّة الأميركية، شمالاً وجنوباً.
أتذكّر وأتساءل كيف تجرّأ مسيحيو ذلك الزمن، ودمّروا ذلك العالم الفريد الشامخ باسم المسيح. أتذكّر وأسأل:
ماذا فعلتَ في القرن الحادي والعشرين أيها «الثائر الربيعيّ» العربيّ في البلاد التي تنتمي إليها؟
ألهذه الدرجة ينحدر عبث التاريخ؟
ما أشقاك أيتها الأرض العربية.
– 5 –
الأخذ باسم الأكثرية العددية، باسم الديمقراطية، في مجتمعات مذهبية – قبليّة، كالمجتمعات العربية، إنّما هو ترجمة «حديثة» للأكثرية المذهبية – القبلية. ويستحيل أن يكون للديمقراطية مكانٌ في مثل هذه المجتمعات. الدين المسيَّس نقيضٌ جوهريّ للديمقراطيّة وللحريّات وحقوق الإنسان.
فرضُ هذه «الأكثرية العدديّة » معياراً، إنّما هو شكلٌ عميقٌ من أشكال العنف، ضدّ الآخر المختلف. وهو قبل ذلك، نقيض لإنسانيّة الإنسان. لا تُقاس العدالةُ والحريّة وإنسانيّة الإنسان بالكمّ.
الإنسان، في هذا المعيار الكمّيّ، هو نفسُه، أيّاً كان، مجرّد رقم. وليس كياناً حرّاً مستقلاًّ وسيِّداً.
والثقافةُ، تبعاً لهذا المعيار، ليست ثقافة مساواةٍ في المواطنة والحقوق. إنها ثقافةُ إلحاقٍ وضمٍّ وتهميشٍ ونبذٍ. ثقافةُ «إبادةٍ » منظَّمَة لكلّ ما هو مختلفٌ وخلاّق.
هذا المعيار أساسٌ أوّل لثقافة القضاء على التنوّع والتعدّد. للثقافة التي تتناقض جوهريّاً، مع رغبات الإنسان وتطلّعاته الكيانية العميقة، ومع كلّ ما هو حميمٌ وخاصّ في تميّز الإنسان عن غيره من الكائنات.
ما أهزلَ شأنك، أيها الإنسان، على هذه الأرض العربية السّماويّة. حتى السيف – هذه الآلة البائسة التي تقطع رأسك أعظمُ شأناً منك!
– 6 –
يبدو أنّنا، نحن العرب – نعمل، ونفكّر، نخطّط، ونناضل، كما لو أننا نطالب القيود بأن تكون هي نفسها حرّيّاتنا، والسجون بأن تكون هي نفسها بيوتاً ومدارس وجامعات، والمذهبيّات بأن تكون هي نفسها القصور والسياسات، والطّغيان بأن يكون هو نفسه ذروة الديمقراطية.
– 7 –
ليس سهلاً أن تعاصر زمَنَك. تطرح عليك المعاصرة مهمّات كثيرة صعبة، وأسئلةً كثيرة أشدّ صعوبة. معظم الناس يميلون إلى أن يعيشوا في القديم إلى جوار أسلافهم أكثر منهم إلى جوار أبنائهم.
رفض هذه المعاصرة يحوّل المجتمع العربي – الإسلامي إلى كائن ضخم خرافيّ يلتهم أبناءه، مجرِّداً إيّاهم من هويّاتهم وفراداتهم.
وتعلّمنا التجربة الثوريّة التاريخية أنّ الجوهريّ في الثورة ليس مجرّد التغيير، سلطويّاً على الأخصّ، وإنّما هو في تحقيق الخصوصيّ الحاسم الذي ينقل المجتمع بكامله، سياسةً وثقافةً واقتصاداً من القديم الثّابت إلى الجديد المتحرّك المتطوّر. والثورة إذاً هي في جوهرها، قطيعة: مع الماضي بوصفه بُنىً ومؤسّسات أو تحديداً، بالنسبة إلى المجتمع العربيّ، قطيعة مع ثقافة القرون الوسطى وأسسها: الدين المُسَيّس، دينية الدولة، في المقام الأوّل – الخلافة، ( وهي أساساً محصورة في حكم أفراد محدودين، باسم مجموع الأمّة ) وإقامة المجتمع المدنيّ والقانون المدنيّ والمساواة بين المرأة والرجل.
ورفض المعاصرة يجعل العرب «يشترون »الثورة وأسلحتها، كما يشترون الحداثة ومنجَزاتها التقنيّة.
ورفض المعاصرة يعني غياب القانون، وهيمنة الجمود والأزمنة الماضية، وتكرار فظائعها. أن يسود الحياة كلُّ ما هو خارجٌ على القانون، أمرٌ لا اسم له غير التوحّش. التوحّش قصّابٌ لا يُعنى إلاّ بتقطيع البشر، رؤوساً وأجساماً. وليست المجتمعات بالنسبة إليه إلاّ كتلاً وأكداساً من اللحم.
هلمّوا أيها الجائعون !
*عن «الحياة»