لأسباب وشروط تناولناها لأكثر من مرة، دونت أهم وثيقة في حياة المجتمعات والدول (الدستور) بيد نوع من القوى السياسية والعقائدية تدين بالفضل في مكانتها الحالية لسياسات النظام المباد وعدائه الشرس لكل أشكال التعددية والحريات في المجتمع العراقي، الذي اضطر للتقوقع داخل شرنقاته وملاذاته التقليدية الضيقة، وبالتالي خانعاً لتوجيهات وخطابات ما عرف بـ (ممثلي المكونات) والتي فخخت الوثيقة الأهم في تحديد مصائر الشعوب. إحدى أكثر العبارات فتكاً هي (المناطق المتنازع عليها) والتي تدعوا سكان تلك المناطق الى الاستعداد والتمترس لحسم أمرها، على حساب هذا الطرف أو ذاك. مثل هذه الألغام في الصياغة والشحنات تعكس طبيعة وعي تلك القوى والجماعات لمهمات ما يفترض أنها مرحلة للعدالة الانتقالية، تمهد الطريق لبناء النظام الديمقراطي ومؤسساته العتيدة، التي لم يخفقوا في التصدي لها وحسب بل جعلوا منها أكثر عسراً وتعقيداً مما كانت عليه لحظة زوال النظام المباد ربيع العام 2003.
مثل تلك البدايات البعيدة عن الحكمة والمسؤولية لا بد لها من مثل هذه النهايات التي تكرس الضعف والهوان والتشرذم بين شعوب هذا الوطن المنكوب. ما حصل مع إقليم كردستان والقرار الذي اتخذته قيادته في إجراء استفتاء الانفصال عن العراق وتشكيل دولة مستقلة في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، يأتي تتويجاً لذلك السبيل الذي رسمته لهم مثل تلك العبارات والفقرات الملغمة للدستور العراقي، والتي حشرت فيه تلبية لشراهة وضيق أفق ما يمكن أن نطلق عليه بـ (الآباء المتحاصصون). لقد حذرنا وفي سلسلة من الأعمدة قبل الاستفتاء وبعده من مغبة الإصرار على المضي بمثل هذه الخيارات المغامرة والمتهورة، لا سيما بعد أن ضربت قيادة أربيل كل النصائح والاقتراحات المقدمة لها من أصدقاء قضية الشعب الكوردي التقليديين محلياً وإقليميا ودولياً بعرض الحائط، من دون أدنى شعور بالمسؤولية عن عواقب ذلك، والتي جاءت سريعاً بفرض سلطة الدولة الاتحادية على كركوك والمناطق التي يفترض التعايش عليها.
ما جرى من تحجيم لطموحات السلطان الفيدرالي هو تطور يتناسب والمعطيات الجيوسياسية للمنطقة، وطبيعة المصالح المشتركة للمحاور الإقليمية والدولية، والتي برهن السيد مسعود وفريق مستشاريه، عن عجز فاضح في استيعاب أولوياته، مقامراً بقضية الشعب الكوردي ومكتسباته لقاء تطلعات فئوية انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد. من سوء حظنا جميعاً من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء أننا نواجه مثل هذه التحديات المصيرية بنوع من الزعامات لا يعرف قاموسها شيء عن ثقافة الاستقالة أو الاعتذار عما ألحقته حماقاتهم من أضرار فادحة بقضايا الناس ووجودهم ومصائرهم، وما رد فعل أربيل الأخير على ما جرى من فرض لسلطة الدولة والقانون في كركوك وبقية المناطق، والذي حظي بتأييد محلي وإقليمي ودولي واسع؛ إلا مثال على مثل تلك الثقافة المدمنة على التهرب دائماً من تبعات سياساتها الكارثية وقراراتها المتهورة، والتي حاولت عبثاً رسم خارطة جديدة عبر أنهار جديدة من الدماء..! ذلك المنحى الذي لم ينجر إليه ما تبقى من حكماء وروح كوردية جديدة، لم تعد تهرول خلف فزعة (انصر أخاك ظالماً أو مظلوما) والتي أجهضت التطور الحضاري والمنشود لقضايانا العادلة في الحياة الحرة والكريمة، من دون تمييز على أساس الهويات والعبارات القاتلة…
جمال جصاني
المناطق المتعايش عليها
التعليقات مغلقة