كنت قد اغتنمت فرصة سنحت لي في منتصف الستينيات، وأنا طالب صغير، لمشاهدة عمل سينمائي حاز شهرة واسعة في حينه اسمه «اللص والكلاب». ولم أترك قريباً في المنزل أو صديقاً في المدرسة أو رفيقاً في الحي، من دون أن أخبره بالموضوع. ولم ألبث بعد ذلك بأسابيع أن اقتنيت الرواية نفسها، التي نشرها نجيب محفوظ عام 1961، وقرأتها بنهم شديد، أكثر من مرة.
في ما بعد سطا زملاء لي على الكتاب، مدفوعين بحماستي الشديدة له، وتلاقفوه في ما بينهم الواحد بعد الآخر حتى يئست منه تماماً. واقتنيت روايات أخرى للمؤلف ذاته لم تنج هي أيضا من السطو. لكن «اللص والكلاب» لم تفارق مخيلتي أبداً. فقد كانت الثورة العارمة التي لهج بها بطل الرواية، وشعوره بالظلم الذي وقع عليه من أصدقائه المقربين، وخيانة زوجته له، وإعراض ابنته الصغيرة عنه، عوامل أثرت في نفسي كثيراً، وجعلتني أتعاطف معه أحياناً ، برغم معرفتي أنه لص خطير.
غير أنني لم أستطع فهم بعض الشخصيات التي أثارت نقمة «سعيد مهران» بعد خروجه من السجن، وبالتحديد صديقه الصحفي «رؤوف علوان». بل إن علاقة المودة بين صحفي ولص لم تعجبني البتة. ولأنني كنت أقرأ الحوادث كما هي من دون أن أردها – بحكم التجربة والسن – إلى عوامل أكثر عمقاً، فقد عجبت كيف يحرض الصحفي هذا صديقه اللص على السرقة، ثم يحذره منها بعد خروجه من السجن. ولم أدرك ساعتها أن الموضوع كان سياسياً صرفاً. فالرجل كان يسارياً قبل الثورة، ناقماً على ملاكي الأرض الكبار. وحينما خرج سعيد من السجن ألفى صديقه الصحفي شخصاً آخر، يتمتع بامتيازات كثيرة ويسكن قصر أحد الباشوات السابقين. لقد تخلى عن أفكاره السابقة وبدأ يدافع عن النظام الجديد بقوة، مدشناً عصراً جديداً من الفساد السياسي. وهذا ما أغاظ سعيد كثيراً.
كان موضوع الرواية مختلفاً تماماً بالنسبة لي. فقد كنت حينها ساخطاً على سعيد لارتكابه جريمة السرقة ودخوله السجن. وكنت أعذر نبوية لأنها شعرت بالعار من ارتباطها بشخص مثله. ولم يكن في مخيلتي أكثر من هذا. إلا أنني أدركت بعد سنوات أن اللغز الأكبر الذي هيمن على أجواء الرواية هو الصراع السياسي في مصر قبل الثورة وبعدها، ولاسيما موضوع النصف بالمئة، أو حصة ملايين الفلاحين مقابل ما يملكه الإقطاعيون وباشوات ذلك العصر من أراض. وهو موضوع شغل النخبة في حينه، وكان سبباً مباشراً في اندلاع الثورة.
ولكن هل أن ما فاتني أنا شخصياً في تلك الحقبة قد فات زعماء الثورة المصرية أيضاً، فتغاضوا عن الرواية وسمحوا لها أن تنتشر على هذا النحو، ثم تتحول إلى شريط سينمائي ضخم، وإلى عمل إذاعي أيضاً؟ ألم يكن نقاد ذلك العصر واعين إلى نقد نجيب محفوظ لمظاهر الفساد التي حالت دون تحقيق الثورة لأهدافها كاملة، ثم تسببت بهزيمة مرة لها عام 1967؟
إذا كانت هذه الزعامات لم تلتفت – مثلي – إلى المضمون، وهذا ما أستبعده لوجود كثير من الشخصيات المهمة بينها، فمعنى ذلك أنها كانت تعيش في عالم آخر. أما إذا تغاضت عن كل ذلك راضية فهذه فضيلة تحسب لها بكل تأكيد. ويبقى نهم طلبة تلك الحقبة لكل عمل أدبي جميل جديراً بالاعتبار حقاً.
محمد زكي ابراهيم
بين عهدين
التعليقات مغلقة