د.اماني الفاضل
لم يضع الشاعر حازم هاشم عنواناً لنصه فهو يحمل في طياته العنوان الذي يتبادر إلى الاذهان عند القراءةِ ، فالانتظار هو العنوان الذي يستنبط من النص وقد يبدو اعتيادياً ولا يملك ما تملكهُ العنوانات من دهشة في الوهلة الأولى لأن الانتظار يحمل في طياته السأم والملل ، ويفتح بوابة للقلق ، والتوجس والحذر من الأشياء ، لأن المُنتِظر على معرفة تامة بما ينتظره إلا في نص حازم الانتظار هنا جمرةِ متقدة في يده يقبض عليها قسراً ، فهو ينتظر وطناً حلماً لا وجود للقتلةِ فيه ، ومن هنا اكتسب الانتظار المر الدهشة وعلى عادة الشعر (الذي يرسخ اللامألوف وفي الوقتِ نفسه شيء من المألوف فينقذ الإنسان من الضياع في الوجود اليومي الزائف ويحمل إليه صفة الوجود الأجمل)() .
نجد أن الشاعر حازم بنى نصه على متلازمة الموت والحياةِ ، فجاء البناء متنامياً لأنه يتضمن (مجموعة مفارقات تضيء واقعاً تتكشف داخله تجارب إنسانية غنية ومتشابكة اعتمد الشاعر في تشكيلها على مشاهد من الحياة اليومية)() ، صور لنا الشاعر تفاصيل دقيقة لوقائع اجتماعية يبين فيها أبعاداً إنسانية مهمة تنتج لنا معرفتها كشف هذه الواقعةِ اليومية والمشاعر الإنسانية التي تكتنفها() .
وأول التفاصيل تبدأ من ملبسه ، فقد اختار الشاعر وبقصدية اللون الأسود لبدلته ، والأبيض لقميصه ، والاحمر لون رباطه ، وغير خاف أن للإلوان مدلولات فلسفية ونفسية وجمالية لما تحمله من خاصية معرفية ورمزية ولها تأثيرها على النفس الإنسانية فهي قوة موحية وجذابة ، وقد أتخذ اللون في لوحة الشاعر المرسومة لنا مشهدين إيجاباً وسلباً .
الأسود الذي اختاره لوناً لبدلته يدل على الحزن والخوف والهلع بصورته السلبية ، أما الإيجابية فمرتديه يتمتع بإرادة قوية واتزان() ، وقدرة على فهم الاخرين مع ميل للدعاية والمرح ، وسودواية ساخرة في تقديره للأشياء فهو لا يكتفي بإرتداء البدلة لأنهُ مرتبط بعمل رسمي لا فقد وضع عطرين (أضع عطرين واحد أحبه وآخر تحبه وأبحث عن شعرة تمردت على مشطي لأقمعها) ، حتى أنه قمع شعرة لأنها متمردة ، ووضع في جيبه من الشعر والمواعيد وأرقام الهواتف وهذه لا يقوم بها من يتملكه الخوف والهلع لأنه ينشغل عنها ، وسار في الشارع ، وهو هنا وجه لوجه مع كائن لا يعرفه ولكنه بكل هدوء ورزانة يدعيها يحيي الرجال ويتجنب النسوة ، أما الأبيض لون() قميصه ايجاباً يرمز للنقاء والطهر والسيرة الطيبة فهو يقبل رأس عجوز تبيع الشاي وبقلب طاهر يحضن صاحبة النذل أما سلباً فهو كفنهُ الذي يلتحف به حيث يكون ، وللأحمر لون رباطه رمزية الترف والجاه لأنه لباس الحكام والسلاطين بصورته الإيجابية ، أما السلبية فهو لون الدماء والحروب() .
فالرباط الذي يطوق عنقه به هو قلادة الموت التي خطت على ابن ادم ، فالقاتل لم يستطع أن يضع عليه فرصته في أن يبدأ يومه بما يحب ، فهو ينتظره بكامل اناقته فيتضمن النص صور عديدة لتفاصيل صغيرة مرسومة بدقة فهي التي تجعل الحياة تدب في من يقوم بها ، لان الانتظار يلقي بظلاله ويبدد جمالية هذه الاشياء المحببةِ إلى النفس مع صغرها ، فيركن الإنسان إلى القلق والخوف ولكن حربه لهذا القاتل كانت بفعل كل الأشياء ، فالسير في الشارع والقاء التحية واشعال البخور واحتساء الشاي والتدخين والحديث عن الشعر واركون وستويل والغمز من قناة الرئيس والمرجع والمسؤول ومغازلة البريئة والماجنة ويقبل رأس العجوز والانتشاء لرائحة رقبة طفلهِ وحوارهِ الضاحك مع زوجتهِ عن السخان الكهربائي وصاحبهُ البخيل الذي يدعوه على العشاء هي صور حية متحركة للحياة التي يعيشها فهذه التفاصيل التي قد تبدو اعتيادية ولكنها تعني حياته التي يصطادها الموت كل لحظة محاولاً إفسادها فهو لا يعلم كيف ومتى وأين سيأتيه هذا القاتل الذي ينتظره ليرديه .
تميزت قصيدة الشاعر حازم بقصر العبارات وكان لعنصر التكرار دورة في بنائها وعلى مستويات متعددة ، فقد حصل بصيغ عديدة منها الصيغ الفعلية للجمل التي زادت على العشرين وجاءت متوازية التعداد وما يفعله في يومهِ متراتباً بتكرار حرف العطف الواو ، والحضور الطاغي للفعل المضارع وفاعله أنا يومئ بالحركة التي تناقض السكون، فالمفردات تكتسب أهميتها من صيغها كمفردات وذلك بما يتوفر لها من مرونة كبيرة في التشكيل ، فحضورها اللغوي له دلالته وإيقاعهُ فهي تقوم يخلق جو خاص تبدو فيه هذه المفردات بنىً حية تتوهج داخل النص فتعمق وظيفة وتعطيه مزيداً من الاستعداد لممارسة دوره في التوصيل مع سلاسة ووضوح المفردة() .
أما على مستوى الخاتمة فالشاعر يستعيد البداية بالكلمات والتراكيب نفسها ، تأكيداً لصيغة الكلمة المفتاح أنتظر قاتلي إلا أنه في فجر اليوم التالي يتدثر حالماً بوطن لا ينتظر فيه القاتل .