أثار موضوع تشييع الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني في مدينة السليمانية، من دون المرور بالعاصمة بغداد، ومن ثم لف الجثمان بالعلم الكردي؛ زوبعة من ردود الأفعال المتناقضة، حاول البعض لفلفتها كما جرى مع القيادي البارز في الاتحاد الوطني الكوردستاني السيد سعدي بيره الذي وصف الأمر بأنه حدث سهواً! لكن ما تناقلته وسائل الإعلام ومن مصادرموثوقة، فأن ما حدث جرى وفقاً لمشيئة عقلية الرئيس الراحل السيدة هيرو خان (الزعيمة الفعلية للاتحاد الوطني الكوردستاني حالياً) والتي لا تمثل المزاج السائد عند أسرة الرئيس الراحل وحسب، بل لدى تيار حزبي وسياسي واسع. طبعاً أصحاب النوايا الحسنة كانوا ينسجون في مخيلاتهم سيناريوهات أخرى، تساعد على ترميم شيئاً من التصدع الواسع الذي لحق بالعلاقة بين الحكومة الاتحادية والإقليم، على أساس أن الرئيس السابق قد شكل ابّان حياته “صماماً للأمان” وكان من الممكن تحويل مناسبة تشييعه الى فرصة للحوار ومد جسور العقلانية والحكمة والثقة بين مختلف الأطراف المتنازعة، لكن الوقائع برهنت مرة أخرى على أن لجام مثل هذه الفرص، ما زال رهن مشيئة صقور المزاودات الحزبية والسياسية الضيقة، المتخصصة بدغدغدة المشاعر الشعبوية للحشود. بالرغم من موقفي الشخصي والذي تضمنته العشرات من الأعمدة والمقالات واللقاءات؛ من العلم الحالي للدولة العراقية، والذي لا يمت بصلة لمعنى وروح هذا الوطن القديم، المتعدد الشعوب والثقافات والملل، وإصرار حيتان المشهد الراهن على التمسك به وبملحقاته من تراتيل وأناشيد ورموز ومدونات، وتحذيراتنا لعواقب ذلك؛ إلا أن كل ذلك لا يبرر اتخاذ مثل هذا الفرمان البعيد عن الحكمة والمسؤولية والبروتوكولات والسياقات المعمول بها بين الدول. صحيح أن الراحل كان سيتفق وقرار عقيلته (السيدة هيرو خان)، لكنه لن يعترض لو سبق ذلك إقامة تشييع رسمي له في بغداد، بوصفه كان رئيساً لجمهورية العراق لدورتين انتخابيتين، لكن مناخات التشنج والتصعيد السائدة كان لها رأي آخر.
ما حصل مع جثمان الرئيس السابق وما نضح عنه من ردود أفعال ومواقف، عبّر عما نعيشه جميعاً من هشاشة وضياع وفقدان للعقلانية والحكمة، حيث تتحول في ظل هيمنة هذه الطبقة السياسية وحيتانها المجربة؛ كل المناسبات والأحداث الى محفزات إضافية للتشرذم والضعف والهوان، وهذا ما تطرقنا اليه مراراً، حيث لا يمكن انتظار أي بصيص أمل لا في إقامة العراق الديمقراطي الاتحادي ولا تحول الأحلام القومية والطائفية الى واقع. مثل هذه الإقطاعيات السياسية والعقائدية المهيمنة ستستثمر في كل المناسبات والمنعطفات، وستبقى حريصة على ديمومة مناخات التشنج والتصعيد على أساس الرطانة والأزياء والهلوسات. لقد أصرت السيدة هيرو خان والمتجحفلين معها بمشيئة ومزاج، على أن يودّع السيد جلال الطالباني بوصفه زعيماً حزبياً ومناطقياً (السليمانية ومنطقة سوران) لا بوصفه رئيساً للعراق ونائباً لرئيس الاشتراكية الدولية، وهذا الموقف ينسجم مع حالة الركود التي تعيشها هذه التنظيمات السياسية التي انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد. برفقة هذه العقليات والزعامات الوراثية، سيكون لنا الكثير من مثل هذه المواجهات لنهش بعضنا البعض الآخر، وبالتالي خسارة المزيد من الوقت والفرص والإمكانات للعيش كبقية المجتمعات والدول التي انتصرت لكرامة الإنسان وحقوقه من دون تمييز على أساس “الهويات القاتلة” كعب أخيل هذا الوطن المنكوب..
جمال جصاني
علم وجثمان
التعليقات مغلقة