قوانة الزعيم القوي

يمكن التعرف على ضحالة الوعي المهيمن على المشهد الراهن، في الكثير من المفاهيم والعبارات الرائجة لا عند الاوساط الشعبية وحسب، بل وسط من يعد نفسه من “النخب” الثقافية والسياسية والاعلامية، منها قوانة (الزعيم القوي) والذي يتخيله الكثير منهم على شاكلة ذلك المخلوق الذي انتشل مذعوراً من جحره الأخير. كما يمكن للمتابع الجدي ان يلمس ذلك فيما يطفح من صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي من خطابات وآراء فنطازية حول مثل هذه الموضوعات، حيث يغلب عليها الشكوى والحسرة من عدم امتلاكنا لـ (الزعيم القوي) بوصفه مفاجئة أو هدية من السماء والاقدار للشعوب والامم، لا نتيجة حاجات موضوعية وتراكم طويل ومعقد للخبرة والوعي العميق المرصعان بروح الشجاعة والايثار، كما شهدته التجارب الناجحة للمجتمعات والدول في التاريخ الحديث. أما نسخة الزعيم القوي والذي تتمثل بالدكتاتور الذي يبيح لنفسه سحق كل من يختلف معه في العقيدة والممارسة والذائقة والسلوك، والذي ينتهي به المطاف بمحق اساس تطور المجتمعات ومنبع ازدهارها اي (التعددية والتنوع بكل تجلياته المادية والقيمية) فقد خبرته تجارب الامم والشعوب، عبر نكبات وكوارث توارثت الاجيال فواتيرها الباهضة جيلاً بعد جيل. ولنا في العراق تجربة مريرة في هذا المجال، مع ذلك المخلوق الذي اشرنا اليه والى يافطاته البائسة من نسيج (اذا قال فلان قال العراق) وغيرها من العبارات التي ستظل تحكي عما انحدر اليه هذا الوطن القديم من حال لا يحسد عليه ذات عصر.
لا احد بمقدوره القفز على دور الافراد والشخصيات المتميزة في حياة ومصائر المجتمعات والدول قديماً وحديثاً، لكن هذه الادوار اكتسبت شحنات ومعان جديدة، تقلص فيها دور البطش والعضلات و”اهتزاز الشوارب” لصالح العقل والمسؤولية والحكمة. بالرغم من فداحة الاضرار التي لحقت بنا جميعا جراء تمكن هذه الشريحة من العصابات في التسلل للمفاصل الحيوية للدولة والمجتمع في العقود الخمسة الاخيرة من تاريخنا؛ ما زالت اعداد غير قليلة تحن لتلك المحطات المشينة بوصفها بديلا افضل من حالة الضعف والهشاشة التي تبدو عليها الدولة الحالية. ان هشاشة التجربة التي نمر بها حالياً، لا تعد بحد ذاتها دليلا على النقص أو الضعف، الا في حالة الاصرار على منهج الهرب الى الامام والقفز على الاسباب والعلل الفعلية لما وصلنا اليه، كما حصل معنا برفقة عدد من متقمصي ادوار (الزعيم القوي) والذين القت حماقاتهم بالحشود التي اتبعتهم الى الهاوية. كما ان (الجيوش المهزومة تجيد التعلم) بمقدورنا النهوض مجدداً واسترداد المكانة التي تليق بنا بين سلالات بني آدم؛ عبر القطيعة مع منهج العنتريات الفارغة وانتظار المعجزات من مثل تلك القوانات البائسة، واتباع السبل المجربة والواقعية البعيدة عن الغوغائية ووغف الانفعالات، لنتمكن من تشخيص العلل الفعلية والقوى والعقائد والمصالح التي تقف خلف ما حصل لنا قبل “التغيير” وبعده. ان المواجهة الشجاعة لبؤس الحال الذي انحدرنا اليه وواقع امكاناتنا المحدودة على التغيير، هو الخطوة الاولى الصحيحة على ذلك الطريق الطويل والمرير، لا اجترار مثل تلك التعاويذ الفاشوشية من نسيج (الزعيم القوي) والذي لا يطيق سماع أي رأي مغاير لحماقاته وغطرساته الخاوية. القوة والزعامة في عالم اليوم لا ينفصلان عن الوعي العميق والتجربة الحقيقية من الكفاح وروح الايثار لخدمة الشأن العام وكرامة وحقوق الانسان وحرياته.
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة