وجهان لخيبة واحدة

ارتفعت وتيرة المناوشات بين بغداد وأربيل على خلفية إصرار الرئيس المنتهية ولايته لإقليم كردستان السيد مسعود البرزاني على إجراء الاستفتاء لاستقلال الإقليم عن الدولة الاتحادية، والذي أجري فعلاً في الخامس والعشرين من شهر أيلول الجاري (تأريخ تمرّد البرزاني الأب على الجمهورية الأولى العام 1961). سيول من الاتهامات التي وصلت لحد التخوين تبادلها الطرفان المتناهشان، وكل منهما يدعي الدفاع والإخلاص لقيم الديمقراطية والتعددية والحداثة والحريات وما تضمنه الدستور من خلطات تشريعية ترضي ذائقة الجميع، مفاهيم أفرغت من محتواها، إذ لا تنسجم هذه المنظومة الحضارية والعقائد الشوفينية والطائفية والعشائرية المعتمدة لديهما. لا أحد منهما يمتلك مقداراً كافياً من المسؤولية والشجاعة، كي يقر ما ألحقته سياساتهما وسلوكهما من أضرار بما كان يفترض أن يكون مرحلة للعدالة الانتقالية، والتي يتم فيها التصدي للتركة الثقيلة والملفات الخطيرة الموروثة عن أبشع تجربة توليتارية عرفها تأريخ المنطقة الحديث. من الأهمية بمكان الإشارة الى أن غالبية هذه القوى والعقائد والمصالح المتناهشة حالياً، تنحدر من السلالات نفسها التي ناصبت العداء للجمهورية الأولى ومشروعها الوطني والحضاري (القوميون المتشددون من شتى الرطانات والأزياء، والطائفيون والقبليون وبقية المتجحفلين معهم بعقائد التشرذم على أساس الهويات القاتلة). لذلك هم جميعاً من دون استثناء شركاء في خيباتنا المزمنة زمن “التغيير” وقبله. وهم برغم الصخب والضجيج المتصاعد عن فزعاتهم ونزاعاتهم التي لا تكل ولا تمل، يعتاشون على ترسانة العصبيات و”الرسائل الخالدة” نفسها، ويمكن التأكد من ذلك عبر تصفح شيئا من تأريخ تحالفاتهم بالأمس واليوم، والتي تطيح بكل أنواع المساحيق والواجهات الجميلة التي يتخفون خلفها.
مشكلة العراق الحديث والتي واجهته منذ اللحظة الأولى لتأسيسه العام 1921 لا تكمن في نوع الخارطة الجيوسياسية التي حددت له بعد زوال الامبراطورية العثمانية، ولا لتركيبته السكانية متعددة القوميات والثقافات والأديان، والتي لم تشكل عائقاً أمام أنجح التجارب التي عرفتها سلالات بني آدم في العصر الحديث، بل على العكس من ذلك تحولت الى مصدر للازدهار والثراء المادي والقيمي، مشكلته تكمن في حل تحديات امتلاك الدولة الحديثة والهوية الوطنية والحضارية، هذا التحدي الذي لا تطيقه الحيتان والكتل المهيمنة اليوم في بغداد وأربيل. من خلال الاستماع لما يتطاير من خطابات وادعاءات وتبريرات من كلا المعسكرين، يمكن التعرف بسهولة على مدى هشاشتها ومفارقتها للمصداقية والموضوعية والمهنية، ومن المؤسف أن يجد مثل هذا الرذاذ المتطاير من الأكاذيب والأضاليل وأشباه الحقائق، معابرا آمنة للمرور الى الحشود والأتباع وسط هذه المناخات المسعورة من التجييش والتحريض ضد بعضنا البعض الآخر. كما أن كتل التشرذم وضيق الأفق واللصوصية هذه، قد برهنت وعلى مر تأريخنا الحديث؛ أنها لا تجيد صناعة الحوارات المسؤولة والبناءة والتي تؤسس للسلام الأهلي والاستقرار والثقة بالمستقبل، وهي لا تصغ لغير ما يستوطن جماجمها من هلوسات الإقصاء وشيطنة الآخر المختلف، وما ينضح عنها من أحقاد وثارات صدئة. واليوم نجد أنفسنا ندخل برفقتها الى طور جديد من النهش المتبادل وانتهاك حقوق وكرامة بعضنا البعض الآخر، لتسحق كل إمكانية أمام سكان هذا الوطن المنكوب (من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء)؛ لاسترداد حقوقهم في الحياة الآمنة والمستقرة التي تتيح لهم التعرف على لصوصهم المحليين (حرامي البيت) تلك القوارض المعتاشة على مناخات عدم الاستقرار وفزاعة “العدو الخارجي” وإطلاق القادسيات و…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة