هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 19
الفصل العاشر
تطوير مدينة بغداد في ثمانينيات القرن العشرين
التكليف بمهام تطوير بغداد ، الحرب العراقية الإيرانية والانغماس في مشاريع الأمانة، رفعة الجادرجي ومهمة تطوير بغداد , مرض زوجتي سعاد في فترة الحرب، الحرب العراقية الإيرانية هروب الشركات من ساحات الحرب ، تسلم مهمة معاون أمين العاصمة ، مشاريع شارع حيفا ، منظومات الإشراف على المشاريع ، مكتب تنسيق شارع حيفا ، عبد الحسين الشيخ علي أمينا للعاصمة
التكليف بمهام تطوير بغداد
قررت السلطة العفو عن صديقي المهندس المعماري رفعة الجادرجي والافراج عنه في صيف 1980 ، بعد ان قدم للمحاكمة والحكم عليه بالسجن المؤبد الذي قضى منه عشرين شهراً ، على النحو الذي جاء في كتاب ( جدار بين ظلمتين ) الذي كتبه بالمشاركة مع زوجته السيدة بلقيس شرارة . زرت صديقي الجادرجي في داره بشارع طه لتهنئته بخروجه الى الحرية ، فالتقيت هناك عددا من زملائنا المهندسين الاستشاريين ، وتحدثنا عما ينوي رفعة عمله بعد اطلاق سراحه . لم اكن اعرف شيئا عن قصة الافراج عنه الا بعد ان قصها علينا في تلك الجلسة . وعلمت منه انه قد يكلف من قبل امين العاصمة للمساهمة في حملة تطوير مدينة بغداد ، واعدادها لاستقبال مؤتمر القمة لدول عدم الانحياز في سنة 1982 .
بينت للجادرجي استعدادي لمساعدته في تطوير مدينتي بغداد من منطلق المصلحة العامة ، والشعور باهمية تطوير العاصمة من خلال تنفيذ بعض التصاميم من قبل مكتبنا ( دار العمارة).
بعد نحو اسبوعين من ذلك اللقاء ، ابلغني رفعة الجادرجي برغبة امين العاصمة سمير عبد الوهاب الشيخلي في ان ازوره في مكتبه للتحدث في منهج تطوير بغداد . زرت امين العاصمة وجرى الحديث حول الموضوع ، وسألني عن اعمالي التي اقوم بها ، فبينت له بأني غير مشغول حاليا ، وانتظر الموافقة على اعادة فتح مكتب دار العمارة للمباشرة بالأعمال بعد أن اغلق المكتب من قبل الرئاسة . طلب الشيخلي مني المشاركة في اعمال تطوير بغداد ، واخذ يشرح لي منهج العمل في شارع حيفا وشارع الخلفاء وبعض الاعمال الاخرى كجزيرة بغداد السياحية وحي سكني في منطقة السيدية .
اثناء الحديث اوضحت لأمين العاصمة بأني غير مؤيد للتطوير الشريطي للشوارع مثل شارعي حيفا والخلفاء ، لأن هذه الطريقة تترك وراءها مشاكل تخطيطية عديدة ، يمكن ادراكها بيسر اذا ما أطل اي شخص على ما وراء العمارات المقترحة على الحي المجاور. واني احبذ ان يكون التطوير مبنيا على تطوير احياء كاملة ، مثل المنطقة المحصورة بين جسري الاحرار والشهداء على سبيل المثال . لم يؤيدني امين العاصمة على ذلك وذكر لي ما يشبه ان ذلك قرار القيادة . واستمر الحديث على اهمية مساهمة البغداديين في تطوير مدينتهم . وقد وعدته بدراسة الموضوع قبل ابلاغه بقراري الاخير . حاولت ان اعتذر عن هذه المهمة الى رفعة الجادرجي ، لانني كنت في قرارة نفسي لاارغب العمل مع امانة العاصمة ، بعد تجربتي للعمل معها لمرتين سابقتين ، وبينت له ان ما يهمني هو اعادة فتح دار العمارة ، وانشغالي بالعديد من المواضيع المتعلقة بالمشاريع التي توقف العمل بها بعد اغلاق المكتب . ابلغني الجادرجي بان الامين غير مقتنع بما اراه ، وبامكاني القيام بهذه الامور بما لايتقاطع مع عملي مع امانة العاصمة .
في ايلول 1980 ، عقدت امانة العاصمة ندوة دراسية واسعة لبحث مواضيع الحفاظ على تراث مدينة بغداد وتطويرها في الوقت نفسه . عقدت الندوة في قاعة المجلس الوطني واستمرت ثلاثة ايام ، وبحث خلالها الكثير من البحوث والمقترحات والوصايا المقدمة من باحثين وجهات مختلفة . لقد حضر الندوة عدد كبير من المهندسين في مختلف الاختصاصات ، وشرائح مختلفة من ادباء ومؤرخين وآثاريين وعلماء دين واساتذة جامعيين ومسؤولين حكوميين وغيرهم . كانت ندوة مهمة للغاية ، حتى ان رئيس الجمهورية صدام حسين حضر جوانب منها في اليومين الاولين ، وأبدى رأيه في الموضوع .
كانت مواضيع الندوة تتعلق بالمحاور الاساسية التالية :
• اهمية دراسة الابنية التراثية وتحديد مواقعها في بغداد .
• أساليب صيانة الأبنية التراثية .
• إبراز الوجه التراثي لمدينة بغداد .
لم تشترك المؤسسة العامة للآثار ببحوث كثيرة في هذه الندوة لانصراف معظم خبرائها وكوادرها الى الدراسة الاثرية . وفيها قدم المهندس المعماري احسان فتحي محاضرة عن جوامع بغداد القديمة ، واوضح بشكل مؤسف كيف فقدت بغداد الكثير من دور العبادة القديمة والاثرية لاسباب عديدة . غير انه لم يقدم خطة واضحة لاسلوب الحفاظ على الاثار المعمارية المتبقية او احياء ما اندثر منها .
وفي اليوم الثالث من ايام الندوة في 22 ايلول 1980 ، ونحن مجتمعون في قاعة المجلس الوطني ، ابلغنا ان جلسة مساء ذلك اليوم ستكون في قاعة المركز القومي للاستشارات الهندسية . واتذكر اني حضرت تلك الجلسة واستمعت لمحاضرة الدكتور حسين علي محفوظ عن الاسماء العربية في الأبنية التراثية معتمدا على الاسماء التي استعملت في البناء عندما شيد النبي محمد (ص) اول مسجد في المدينة المنورة . ولم تصدر عن هذه الندوة المهمة توصيات او قرارات بسبب تطور الظروف السياسية واندلاع الحرب مع ايران .
لم نعرف اسباب تغيير موقع الاجتماع الاخير للندوة الا بعد عودتي لداري في المنصور مساء ذلك اليوم واستقبلت ضيوفي واصدقائي عدنان الطيار وبهنام ابو الصوف وزهير العطية لقضاء السهرة سوية والتداول حول امور الندوة . وفي نحو الساعة التاسعة مساء، سمعنا الاخبار بقيام المئات من طائرات سلاح الجو العراقي بالاغارة على المطارات والقواعد الجوية المهمة في ايران وتدميرها ، ايذانا ببدء الحرب العراقية الايرانية ( سميت بحرب الخليج الاولى او القادسية الثانية … ) . وكانت هناك مناوشات عسكرية على طول الحدود العراقية الايرانية ، ومنها منطقتي سيف سعد وزين القوس قرب خانقين ، منذ الرابع من ايلول 1980 .
لم يخطر ببالي ان الحرب مع ايران ستنتهي بعد ايام كالحرب العربية الاسرائيلية التي سميت بحرب الايام الستة او الحروب الخاطفة الاخرى ، بل تمثل لي اهمية المشاركة في الجهود الرامية الى الدفاع عن الوطن ، وقد تنادى جميع العراقيين للمساهمة في المجهود الوطني عند اندلاع الحرب . فقررت الموافقة على العمل مع امانة العاصمة ، واعلمت رفعة الجادرجي بذلك ، حيث نقل الامر الى امين العاصمة سمير الشيخلي بعد ان اصطحبني الى دائرة التصاميم التي اصبحت مقر عملي .
الحرب العراقية الايرانية والانغماس في مشاريع الامانة
وهكذا في الايام الاولى من الحرب العراقية الايرانية ، باشرتُ عملي في امانة العاصمة بلا عقد او امر اداري ، بل اندفاع وطني ، اضافة الى رغبتي بالمساهمة في تطوير مدينة بغداد . وبقيت في الاسبوعين الاولين من مباشرتي اتداول مع رفعة الجادرجي حول المشاريع التي تعمل عليها معاونية الانشاءات ، والاعمال التي كلف بها الجادرجي من قبل الامانة . كانت مسؤولية رفعة تنحصر بالعمل على عدد من المشاريع البنائية لتطوير بغداد كشارعي حيفا
والخلفاء واعمال شارع الشيخ عبد القادر الكيلاني وغيرها . اما عملي فقد حددته بتكوين جهاز اشراف متطور ومنظومة هندسية للإشراف على المشاريع المختلفة التي عهد الى معاونية الانشاءات في امانة العاصمة انجازها ، ودعوة المقاولين لتقديم عروضهم بشأن المشاريع الجديدة .
حضر وكيل امانة العاصمة السيد خالد الجنابي ( خالد عبد المنعم رشيد ) في احد الايام ، وقال لي : يكفي دراسة لحد الان ، وعلينا ان نشرع باعمال الاشراف الفعلي على المشاريع . فقمنا بجولة ميدانية في المشاريع التي عهدت اليه مسؤوليتها بصفته معاون امين العاصمة للانشاءات ، وابدى رغبته بان اكون مسؤولا عنها اي اكون معاون امين العاصمة للإنشاءات . ومن هذه المشاريع : النصب الجديد للجندي المجهول ، وجزيرة بغداد السياحية ، وثماني عمارات سكنية في شارع حيفا ، وبرج الزوراء ، وخمسة اسواق مركزية كبيرة في مناطق مختلفة من بغداد ، واسواق مختلفة في مختلف انحاء بغداد ، وعمارة مكاتب ووقوف السيارات في منطقة الباب الشرقي ، وعمارة الرصافي لوقوف السيارات ، واعمال صغيرة اخرى . وفي اليوم التالي انتقلت الى مكتب جديد في احدى غرف دائرة التصاميم ، ووضعت سيارة حكومية خاصة بي ، وهي السيارة التي كان الجادرجي يستخدمها قبل ان يتسلم سيارة جديدة .
درستُ المشاريع التي انتقلت مسؤوليتها اليّ . قسم منها مشاريع كبيرة ورئيسية مثل نصب الجندي المجهول وعمارة الرصافي ، ولاحظت ان جهاز الاشراف على هذه المشاريع الكبيرة لايتعدى المهندس المقيم لكل مشروع فقط ، وما يتوفر في معاونية الانشاءات هو عبارة عن عدد من المهندسين الاقدمين الذين لم يشرفوا على اعمال رئيسية كبيرة وعلى الاكثر قليلي الخبرة ، اضافة الى عدم وجود دوائر او مقرات لاحتواء جهاز للإشراف ، وقد ذكر لي احد المهندسين ان امين العاصمة ووكيله ابلغاه بانهما سيصدران امراً بتوقيفه ان وجداه يجلس في غرفته عند حضور اي منهما الى موقع العمل ولذا لا يمكنه دراسة الخرائط ووضع مناهج بالهواء الطلق .
ان مهمات الاشراف الآنية قد تحددت بالنسبة لي، فان استطعت ايجاد الحلول لها واعادة المقاولين الذين غادروا فجأة بسبب الحرب , سيكون بإمكاني ايجاد الحلول لما يستجد من خلافات تعاقدية او مشاكل فنية . كان عدد من العمال والمقاولين العالميين ، قد غادر العراق بسبب اندلاع الحرب وازدياد الغارات الجوية الايرانية ، الا ان الجهود كانت مستمرة بشكل رئيسي لإعادتهم الى اعمالهم ان امكن.
لم يكن مهندسو امانة العاصمة قد اعتادوا العمل مع استشاريين ، لذا كنت موضع ترحيبهم واحتفائهم ، لمعرفتهم السابقة بي ، والتحدث معهم بمستوىً فني عال من منطلق كوني مهندسا استشاريا صاحب خبرة لاتنكر . لقد وجدوا من يجد لهم الحلول للمشاكل الفنية التي تعترضهم ، وانقذهم من الاشراف المباشر لأمين العاصمة ووكيله ، اللذين كانا قد عرفا بقسوتهما واستخدامهما كلمات لاذعة ( وربما غير لائقة ) في النقد و التأنيب احياناً.
لم يهرب من العراق مقاول مشروع السيدية الهندي الجنسية ( ميكرز ) بسبب الحرب ، و المقاول الهندي لعمارة وكراجات نقل الركاب في الباب الشرقي ، ومقاول الاسواق المركزية وهو شركة ( هيونداي الكورية ) . كما اغلق مطار المثنى ، وهو المطار الداخلي الذي يربط مدن العراق في تلك الفترة . واصبحت اتصالات المقاولين والاستشاريين والعاملين وتنقلاتهم بالطريق البري من عمان والكويت ، بالإضافة الى ان وصول بعض المواد عن طريق الجو اصبح غير ممكن.
وبدأت الاتصالات الهاتفية تتأثر او تتوقف احيانا ، ولم تكن يومئذ من وسائل الاتصالات الاخرى مثل الفاكس والبريد الالكتروني والانترنت موجودة بل كنا نستعمل التلكس . بل لم نتمكن من الحصول على موافقة استخدام الهواتف المتنقلة داخل المشروع بسبب ظروف الحرب . وقد انخرط عدد كبير من المهندسين العراقيين الشباب في الخدمة العسكرية ، ولم يكن بامكاننا الحصول على مهندسين عراقيين للعمل الا نادرا ، او من نستطع سحبه من وزارة الدفاع بموافقة الجهات العليا . واصبح استيراد المواد الانشائية عن طريق الموانئ صعبا ، بسبب اغلاق الموانئ العراقية القريبة من جبهات القتال الجنوبية ، وازدحام البواخر في موانئ البحر المتوسط والبحر الاحمر لاتساع الاعمال وكثرة المشاريع الجديدة التي بوشر بتنفيذها في العراق ، على الرغم من استمرار العمليات العسكرية ( ومنها معارك كبيرة وضارية ) ، وازدياد حجم الاستيراد عن طريق تلك الموانئ . بعد سنتين من اندلاع الحرب اصبح زخم الاستيراد عن طريق الموانئ غير العراقية كبيرا ، وبدأ يشكل عقبة رئيسية في طريق سرعة انجاز المشاريع . كانت الشاحنات على الحدود التركية تقف بالمئات لعدة ايام انتظارا لاكمال المعاملات الحدودية للدخول الى الاراضي العراقية ، حتى اضطررنا الى مفاتحة الدوائر الحدودية نرجوها امرار الشاحنات التي تحمل مواد بعض المشاريع .
رفعت الجادرجي ومهمة تطوير بغداد
لرفعة الجادرجي قابلية جيدة في التخطيط للمستقبل ، وله فراسة في ادارة اعماله بأسلوب حديث ، ويتمتع بمقدرة اتخاذ القرارات بشكل شخصي ومنفرد . كانت علاقته بامين العاصمة سمير الشيخلي جيدة ، اذ كان الامين يستشيره ويستمع الى توجيهاته . وبذلك كان رفعة يعمل على ما يحقق اهدافه كمهندس معماري واهداف الامانة . حصل رفعة وبشكل خاص على جهاز تلكس نصبه في غرفة مجاورة لغرفته ، اذ كان على اتصال دائم بالاستشاريين العالميين لوضع التصاميم المطلوبة للمشاريع . وللتغلب على عقبة تنافس
ثلاثة استشاريين ، واختيار الافضل من بينهم لوضع التصاميم ، واستنادا الى احدى فقرات صلاحيات مجلس التخطيط ، حصل امين العاصمة على صلاحية دعوة استشاري واحد ، وبالاسم ، لشهرته وكفاءته لتنفيذ عمل معين . وبهذا اصبح بامكان رفعة تقديم اسماء الاستشاريين الذين يعتقد بكفاءتهم والحصول على موافقة الامين والتعاقد معه لتنفيذ الاعمال بسرعة .
في تلك الفترة كان مبدأ السرعة والنوعية الجيدة الاساس الذي
اعتمدته الامانة في جميع اعمالها. فاتفق الجادرجي مع الاستشاريين العالميين ، وفي معظم العقود التي ابرمها على مبدأ رجل / ساعة او رجل / يوم او رجل / شهر . كانت كلف العمل تحدد من قبل الاستشاريين بشكل مجزٍ ، بالاضافة الى اجور السفر والتنقل والاقامة في العراق . ولا غرابة في ذلك ، لان منهج تطوير العاصمة
بغداد واشراك استشاريين عالميين في اعماله ، يجري في الوقت نفسه التي كانت بغداد تتعرض الى الغارات الجوية وقصف الصواريخ البعيدة ، والمعارك الضارية على الحدود لم تتوقف .
تحولت دائرة التصاميم يومئذ الى خلية عمل كبيرة ، اذ تفهم الاستشاريون والمقاولون رغبة امانة العاصمة في تطوير المدينة . وبدأ بعض المقاولين ممن هرب وترك عمله بسبب الحرب محاولة العودة والمباشرة بالعمل . كان مشهد حضور المهندسين الاستشاريين الى دائرة التصاميم ، حاملين خرائطهم ومخططاتهم ، مشهدا مألوفا يوميا . حيث يحضر ممثل الاستشاري الى بغداد عن الطريق البري مع الاردن . وخلال ايام قليلة يحصل على الموافقة او التعديل على تصاميمه ، ليعود الى اوربا او امريكا للاسراع بانجاز ما اوكل الى مكتبه من اعمال . كانت اجهزة الكومبيوتر غير معروفة في العراق في تلك الفترة ، غير ان وجودها لدى تلك المكاتب الاجنبية ، ساهم في سرعة انجاز التصاميم واكمالها او اجراء التعديلات عليها ، والعودة للحصول على الموافقة للمباشرة بالعمل .
لم أعرف المهام الرسمية لمعاذ الاَلوسي في حينها ولكن قد يكون حسب توجيهات رفعه ، بدأ المهندس المعماري معاذ الالوسي بالاتفاق مع مكاتب معمارية عالمية لوضع الخطط مع رفعة الجادرجي ، وقدموا اعمالا مهمة في الاعمال المعمارية الاستشارية .كما اشترك معاذ في وضع التصاميم المعمارية لمسابقة احد مشاريع شارع حيفا ، بعد ان قسم رفعة الشارع الى ثمانية اقسام ، وأناط اعمال وضع التصاميم الى مختلف الاستشاريين العالميين المعروفين ، والى المركز القومي للاستشارات الهندسية والمعمارية ( وهو مؤسسة حكومية ) الذي وقعت عليه اعمال مشروع شارع حيفا / 7 ، لوضع تصاميم عمارتين مهمتين في بداية الشارع من جهة ساحة جمال عبد الناصر ، وقد شغلتهما وزارتا العدل والحكم المحلي . ومن المهندسين العراقيين الذين عملوا في اعمال شارع حيفا اذكر سامي الموسوي ، وهو من المهندسين المعروفين ومقره في انكلترا.
اخبرني رفعة بأن هناك معرضاً لمسابقة معمارية ، والخرائط المقدمة للمسابقة معروضة في قاعة الاجتماعات ، وطلب مني ان ازور المعرض والاطلاع على خرائط المعماريين المتقدمين للمسابقة . وفي اليوم التالي من زيارتي المعرض ، التقيت رفعة وسألته عن نتائج التحكيم وقرار اللجنة ، فقال : زرت المعرض بسرعة واطلعت على الخرائط المقدمة ، وقررت ان احسن التصاميم المقدمة هو تصميم المعماري معاذ الالوسي ، وسأكتب الى امين العاصمة باعتماده . وعندما ابديت استغرابي من هذه الطريقة ، اجابني بان هذه طريقته وقد اعتدت على اعطاء القرار من النظرة السريعة عن افضل المقترحات . وهكذا اعتمدت تصاميم معاذ الالوسي لتكون مشروع حيفا / 6 .
زرت المشروع اثناء التنفيذ ( بعد سنة من المباشرة به )، وقد انجز الهيكل الانشائي للعمارات ، فوجدت ان مساحة غرفة النوم في احدى الشقق النموذجية لا تصلح ان تكون غرفة نوم لشخص واحد ، وان المساحة الفاصلة بين شقتين وتضم الدرج ومدخل المصعد هي كبيرة جدا ، فاعتبرت ذلك تفريطاً باستعمال المساحات ، وكان بالإمكان توسيع الشقتين دون التاثير على مساحات البناء . ايدني معاذ الالوسي في الحالة الاولى ، وعدلنا التصاميم . اما الحالة الثانية فلا يمكن تلافيها .. وهذه العمارات هي التي وصفها رئيس الدولة صدام حسين في احدى زياراته بسؤاله : ما هذه الغابة من الجدران الكونكريتية ؟!
نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار
التعليقات مغلقة