الزعامة و التوريث

كما حصل مع بقية المفاهيم والمصطلحات التي ورثناها عن الأجيال التي سبقتنا، اكتسب مفهوم (الزعامة) معانٍ جديدة تنسجم وثقافة عصرنا المتجددة. قديماً ولأسباب اقتصادية واجتماعية وقيمية تتفق وحركة حياتهم البطيئة والرتيبة، يتم توارث الزعامة بين افراد الأسرة الحاكمة أو المهيمنة سياسياً واجتماعيا وقبلياً، وكان ذلك منسجماً مع ما يشكل البناء الفوقي للمجتمعات والمؤسسات الحاكمة آنذاك. أما اليوم فلم تعد المجتمعات والدول التي وصلت لسن التكليف الحضاري، تستعين بمثل تلك الصيغ البدائية لإدارة شؤونها العامة، في قيادة الدول والأحزاب والنشاطات السياسية والمهنية. هذه الصيغ البدائية والتي كانت مناسبة لعصور ما قبل النهضة، اضمحلت وتلاشت في غالبية البلدان والأمصار إلا مضاربنا المنحوسة، والتي شهدت في العقود الأخيرة عودة ظافرة لمنظومة التوريث والتي لم تقتصر على زعامة الأحزاب وحسب بل أجبرت النظام السياسي الجمهوري في التحول الى ما عرف بـ (الجملوكية) فلا هي ملكية على وجه ولا هي جمهورية. إن استرداد مثل هذه الصيغ البدائية لنفوذها وجاذبيتها، يعود بالأساس الى مناخات التخلف والركود والعجز في مواجهة تحديات العصر الواقعية، الركود الذي لا يطيق الحيوية والتعددية، هو من يقف خلف هذه الردة الحضارية للمجتمعات. ويمكننا تلمس هذه الحقيقة بيسر في واقع عراق اليوم (قبل التغيير وبعده) حيث مهّد النظام المباد لكل هذا الانحطاط الذي نعيشه في شتى الحقول المادية والقيمية، بعد محقه لكل أشكال التعددية والتجدد والتنوع، لتشرع الأبواب أمام ما نشاهده حالياً من هيمنة لهذه الحلول البدائية التي سكنت متاحف التأريخ منذ زمن بعيد.
لا يمكن النظر الى ظاهرة التوريث في حياتنا السياسية والحزبية، بوصفها تجسيد لإصرار تلك الأسرة على عدم التفريط بما منحته الأقدار والصدف لباني مجدها الأول، بل هي تجسيد لمشيئة منظومة متكاملة من المصالح والخدمات المتبادلة لما يعرف بحلقات الأتباع، والتي ينطبق على الكثير منهم عبارة (ملكيون أكثر من الملك) من الذين يدركون جيداً فضل تلك الهيمنة الأسرية على كل ما اجترحوه من مآثر التسلق والتمدد السريع في حقول الدولة والمجتمع. هؤلاء الأتباع يمثّلون القوة الطاردة لكل من تسوّل له نفسه المسكونة بتطلعات التجدد والإبداع المارقة، من الذين يضعون نصب أعينهم مهمة كسر رتابة مستنقعات الركود والخنوع والتفسخ وبقية العوامل التي تمد هذه النظم البدائية بسبل التمدد والبقاء. يمكننا تصفّح شيئا من تجارب الشعوب بهذا الصدد، ونوع الزعامات التأريخية التي لم تتلقف الزعامة بوصفها غنيمة لها ولأبنائها وأحفادها كما جرى مع (زعاماتنا التأريخية) التي أهدتنا كل هذا الخراب، فنيلسون مانديلا بجلال قدره لم يورث وحسب بل حاسب زوجته وانفصل عنها بعد تورطها بملفات فساد، ولم تخبرنا التجارب التأريخية الناجحة عن زعامات طوّبت المنصب السياسي والحزبي حصراً بسلالتها، بل صنعت كل الشروط لديمومة الحيوية والتعددية والعدالة بعد تركها لموقعها. وفي تجربتنا المحلية هناك محطات تؤكد ما تطرقنا إليه، كجعفر أبو التمن على سبيل المثال لا الحصر، إذ جسّد بسلوكه ومنهجه الحضاري التطلعات المشروعة التي عاشها أسلافنا في النصف الأول من القرن المنصرم. تقاليد وقيم تنتظر التواصل معها عسى أن نجد مخرجاً لنا من عجاج القطيع والاتباع…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة