هشام المدفعي
اعتادت الصباح الجديد ، انطلاقاً من مبادئ أخلاقيات المهنة أن تولي اهتماماً كبيرًا لرموز العراق ورواده في مجالات المعرفة والفكر والإبداع ، وممن أسهم في إغناء مسيرة العراق من خلال المنجز الوطني الذي ترك بصماته عبر سفر التاريخ ، لتكون شاهداً على حجم العطاء الثري والانتمائية العراقية .
واستعرضنا في أعداد سابقة العديد من الكتب والمذكرات التي تناولت شتى صنوف المعرفة والتخصص وفي مجالات متنوعة ، بهدف أن نسهم في إيصال ما تحمله من أفكار ورؤى ، نعتقد أن فيها الكثير مما يمكن أن يحقق إضافات في إغناء المسيرة الإنمائية للتجربة العراقية الجديدة .
وبناءً على ذلك تبدأ الصباح الجديد بنشر فصول من كتاب المهندس المعماري الرائد هشام المدفعي ، تقديرًا واعتزازًا بهذا الجهد التوثيقي والعلمي في مجال الفن المعماري ، والذي شكل إضافة مهمة في مجال الهندسة العمرانية والبنائية وما يحيط بهما في تأريخ العراق .
الكتاب يقع في (670) صفحة من القطع الكبير، صدر حديثاً عن مطابع دار الأديب في عمان-الأردن، وموثق بعشرات الصور التأريخية.
الحلقة 18
الفصل التاسع
مشروع معهد الدراسات العليا
التكليف بالعمل وإنجاز التصاميم، الإحالة والمباشرة بالإشراف ،
ستة أشهر في معتقل الأمن العامة
التكليف بالعمل وإنجاز التصاميم
بعد حركة 17 تموز 1968 ، التي استولى فيها حزب البعث على مقاليد الحكم في العراق ، كان شقيقي الاصغر الهام المدفعي ، وهو فنان موسيقي معروف ، يلتقي وافراد فرقته الموسيقية ببعض اصدقاء الطفولة في بيت صغير يقع قريبا من ساحة سباق الخيل في المنصور . وقد اصبحت هذه الدار نواة لنادي الصيد فيما بعد حيث يعزف ويغني الهام الاغاني العراقية التراثية . وكنت انا وشقيقي الاكبر قحطان حسب طلب الهام وزوجاتنا نحضر مساء ايام الخميس لهذا المكان للاستماع للحفلات الاسبوعية .
تعرفنا هناك على السيد سعدون شاكر وهو صديق الطفولة لأخي الهام وآخرين من قادة حزب البعث الحاكم ، ومنهم صدام حسين الذي يحضر متأخرا لبعض هذه الحفلات مع عدد من رفاقه واصدقائه . وكانت حلقة جلوسهم لاتبعد عنا كثيرا في القاعة التي لاتستوعب اكثر من اربعين شخصا . كما بدأ شقيقي الاخر العميد عصام وهو المختص بالتصاميم الداخلية للابنية بالحضور الى نادي الصيد . وكان مكلفا بشكل خاص من قبل صدام حسين نائب رئيس مجلس قيادة الثورة يومذاك لوضع التصاميم الداخلية للقاعة الجديدة لنادي الصيد العراقي .
كانت صلتنا بنادي الصيد شبه رسمية ، وكنا نحن الاخوة الاربعة نشترك في النشاطات الاجتماعية للنادي وحفلاته ، ونحضر مساء كل يوم خميس تقريباً ان لم تكن لدينا مواعيد اخرى . وبحكم ذلك ازدادت الثقة بنا ، وان لم نكن من البعثيين ، فكلفنا سعدون شاكر بوضع تصاميم بناية لدائرة تدعى العلاقات العامة ، وهي التي اصبحت فيما بعد المخابرات العامة . وقعنا عقد العمل كما قدمته نقابة المهندسين ، وقام سعدون شاكر ومعاونوه بتحديد متطلبات هذه الدائرة ، وانواع الابنية المطلوبة لهذا المشروع وموقعه. وبعد الحوار حول تفاصيل المشروع ، اختار أخي قحطان الاسم لمجمع الابنية هذه ليكون ( معهد الدراسات العليا ).
وضعنا المخططات الاولية للمشروع ، وعرضت الافكار التصميمية على سعدون شاكر فأقرها هو وعدد من المساعدين له. وبعد عدة اسابيع طلب الينا احضار جميع الخرائط لعرضها على وزير الخارجية عبد الكريم الشيخلي ، حيث يتضح ان دائرة العلاقات العامة كانت مرتبطة به . فعرضت عليه وناقشناه بالعديد من الافكار والتعديلات المطلوب اجراؤها على الخرائط الاولية . وتمت المصادقة على جميع الخرائط الاولية .
ومن الطرائف التي حدثت عند انتهاء الاجتماع مع وزير الخارجية عبد الكريم الشيخلي ، ان احد مرافقيه ابلغه بأن المصارع العراقي عدنان القيسي ، قد تغلب على منافسه الالماني كما عرض تلفزيون بغداد . فسألنا الشيخلي ان كنا نرغب في اعادة عرض الشريط التلفزيوني لمشاهدة هذا الفوز ( الانتصار ) المهم ؟! ، ولما اجبناه بالايجاب ، رفع سماعة التلفون وكلم مدير التلفزيون وطلب منه اعادة عرض الفلم . توقف منهج التلفزيون وظهر المذيع ليعلن ماياتي : بالنظر لكثرة الطلبات التي وردتنا من المشاهدين الكرام ، نعيد عليكم تسجيل انتصار المصارع العراقي عدنان القيسي على خصمه الالماني . تمتعنا بمشاهدة هذا التسجيل ، وان كنا نعلم في حينه ان هذه المصارعة غير معترف بها كلعبة من المسابقات الاولمبية ، وانها ليست الا تمثيلية متفق على احداثها بين المتصارعين .
قدمنا الى مكتب العلاقات اسماء المقاولين المتوقع دعوتهم لتقديم عروضهم لتنفيذ المشروع ، فاضاف مكتب العلاقات العامة اسم مبدر جاسم الى القائمة ، وشعرنا ان تلك الدائرة ترغب باحالة العمل الى ذلك المقاول . وقد بين سعدون شاكر في فترة لاحقة بانهم يرغبون باحالة المشروع الى مقاول معروف لديهم ، وهذه الفكرة مقبولة على ان تكون للمقاول خبرة جيدة و كلفة العمل مقبولة ، فاحيل العمل الى مبدر الجاسم .
الإحالة والمباشرة بالإشراف
باشر الجاسم بالعمل ، ونسبت مديرية المباني العامة جهازا من المهندسين والمراقبين للاشراف على تنفيذ المشروع . وباشرنا نحن ايضا بالاشراف والتنسيق مع المهندس المقيم . استمرت الاعمال في الابنية الخمسة المكونة للمشروع . قدم المقاول طلبا تحريريا الينا لتغيير نوعية الشبابيك المصنوعة من الالمنيوم ، لتكون من مقاطع حديدية . لم نوافق على هذا المقترح لأن نوعية الشبابيك الالمنيوم هي الافضل في الابنية المكيفة ، لكون مقاطع الالمنيوم اكثر احكاما من ناحية تسرب الهواء . غير ان المقاول ابدى امتعاضه من ردنا .
قدم المقاول مقترحا اخر وهو تغيير الألواح الكونكريتية التي تغلف الابنية وهي الالواح التي تعطي شخصية البناء وطرازه ، ويُكتفى بلبخ الواجهات الخارجية للابنية بالسمنت وطلائه . لم نوافق مطلقا على المقترح لأنه يشوه البناء ويؤثر على الفكرة التصميمية وتفاصيلها . لقد اتضح ان المقاول قدم هذه المقترحات لان اسعاره للتنفيذ غير مربحة بما خطط له . شعرنا ان علاقتنا مع المقاول غير مريحة ، وقد تشوه علاقتنا مع رب العمل . وبالفعل ، فبعد نحو ستة اشهر من مباشرة المقاول بالعمل ، وصلنا كتاب من دائرة العلاقات العامة بتوقيع سعدون شاكر بانهاء علاقتنا بالمشروع كمهندسين استشاريين والغاء العقد معنا ، ورجونا تسليم جميع المخططات والخرائط الخاصة بالمشروع الى تلك الدائرة . نفذنا الامر لكون العقد الهندسي يعطي لرب العمل صلاحية انهاء العمل بالعقد .
توقفنا عن الاشراف على الاعمال ، واستمرت بدون اشراف استشاري واكتفت الدائرة بالاشراف من قبلها ومديرية المباني العامة، فانجزت بعد سنوات بتأخير لمدة سنتين تقريبا . وخلال هذه الفترة تغير رئيس جهاز المخابرات الذي حل محل مكتب العلاقات العامة ، ليصبح برزان التكريتي الاخ غير الشقيق لرئيس الجمهورية صدام حسين رئيسا للجهاز .
في صباح احد الايام من شتاء سنة 1979 ، وصلني نداء تلفوني يطلب مني الحضور الى المخابرات في الساعة الخامسة مساء . ذهبت مع المهندس المعماري انيس جواد ، واستقبلنا احد ضباط المخابرات ، وتجول معنا في المشروع وطلب الاجابة على اسئلته حول بعض الامور التصميمية ؛ لماذا الممر بين الابنية عريض اكثر من اللازم ؟ ولماذا غرفة رئيس الجهاز كبيرة ؟ ولماذا سلم الصعود من الطابق الارضي الى الطابق الاول قريب من غرفة رئيس الجهاز ؟ اجبت بأن الممرات بعرض مترين لانها تربط بين ثلاثة ابنية كبيرة ، اما غرفة رئيس الجهاز كبيرة لان التصميم يتطلب وضع منضدة اجتماع كبيرة لرؤساء الاقسام وعدد من الكراسي داخل الغرفة للحوارت الخاصة ، وان السلم القريب من غرفة الرئيس شبه خاص به . واوضحت ان جميع هذه الافكار نوقشت وتمت المصادقة عليها سابقا . وكان بامكان مهندسيكم تغيير اي شيء اثناء مراحل البناء ، بالاضافة الى ان عقد الاشراف على الاعمال مع دار العمارة قد الغي قبل نحو ست سنوات .
ستة أشهر في معتقل الامن العامة
في الساعة السادسة من مساء يوم 19 تشرين الثاني 1979 ، وكان مكتب دار العمارة يعمل على مايقرب من عشرين مشروعاً حكومياً ، ويعمل به نحو 25 مهندسا ، في الوقت الذي كان فيه شقيقي قحطان في لندن يعرض الاعمال المعمارية للمكتب وجذورها التراثية وتطور العمارة العراقية ، حضر الى المكتب ضابطان من ضباط الامن ، وبعد ان عرفوني باسميهما ( وهي على الاكثر غير حقيقية ) طلبوا مني مرافقتهم الى مديرية الامن العامة للاجابة على بعض الاسئلة . لم تفد معهم كلماتي اذ ابلغوني بأن امرا صدر من الجهات العليا بحجز كل من قحطان وهشام المدفعي لمدة ستة اشهر وغلق مكتب دار العمارة لمدة سنتين .
كلمت زوجتي سعاد علي مظلوم تلفونيا اذ كانت في نادي العلوية ، فحضرت مع السيدة سلوى عريم زوجة صديقنا فاروق عريم الى داري بالمنصور. اخذت معي بطانيتين وبعض الحاجيات الضرورية ، واقلتنا السيدة سلوى بسيارتها ومعنا ضابط الامن . وعند وصولنا مديرية الامن العامة ودعتُ سعاد وسلوى ، ودخلت الى غرفة احد ضباط الامن ، فسألته عن سبب حجزي واغلاق المكتب ، وبينت له الضرر الكبير الذي سيصيب عدداً من دوائر الدولة ، لتوقف اكمال التصاميم للمشاريع المتعاقد عليها مع تلك الدوائر . اضافة الى ان الضرر الذي سيصيب عوائل مهندسينا بسبب توقفهم عن العمل . طلب اليّ كتابة كل هذه المعلومات لتقديمها الى السيد العام ، وهو الاسم الذي يطلق على مدير الامن العام . وذكر ان شعبته في الأمن مختصة بتنفيذ اوامر الحجز التي ترد من القصر الجمهوري ، فانه لاعلم له عادة بالاسباب .
قادني احد افراد الامن الى الموقف ، وبعد صعود السلم ، فتح باب زنزانة الموقوفين ، فدخلت الموقف المتكون من عشرة اقسام على جانبي ممر لايتجاوز طوله 15 مترا، بين كل قسم وآخر حاجز يرتفع الى السقف على شكل مشبك من قضبان حديدية بقطر 2 سم ، وبين الواحد والاخر مسافة 10 سم ، قضبان افقية . لكل زنزانة باب وينام الموقوفون على الارض مفترشين بطانياتهم .
ادخلتُ ليلاً الى احد هذه الاقسام المكتظة ، وتراصف عدد من الموقوفين لاعطائي مكاناً عرضه 60 سم بجوار الباب . افترشت بطانيتي فاصبحت احذية الموقوفين حول رأسي ، وقدمي تلامس اقدام الاخرين . وبالطبع لم استطع ان انام تلك الليلة ، وحاولت تفسير ما وقع لي وسبب الحجز ، ومصير اسرتي ومكتبي واعمالي العديدة غير المنجزة ، وما هي الاجراءات بعد هذا الحجز . لم استطع ايجاد تفسير لما حدث . ولكني كنت اعرف ان الكثير من شخصيات المجتمع تعرضت لما انا عليه .
في اليوم التالي ، استدعيتُ لمواجهة احد ضباط الامن ، فسألني عن قحطان .. اين هو ؟ ومتى سافر ؟ ولماذا ؟ ولماذا لم يسجل اسمه في سجل المغادرين ؟ ومتى يعود ؟ بينت له ان شقيقي قحطان سافر الى لندن لعرض التصاميم المعمارية واعمال دار العمارة في المركز الثقافي العراقي في لندن ، بدعوة من وزارة الاعلام ، وان المعرض سيستمر لمدة اسبوعين . والحقيقة ان قحطان علم باخبار اوامر الحجز واغلاق المكتب ، فاستمر بنشاطه في المعرض والقى عدداً من المحاضرات حول العمارة العراقية وجذورها ومفاهيمها ، وحاز معرضه على اعجاب الكثير من المعماريين والمتخصصين في لندن . غير انه قرر عدم العودة الى بغداد والتعرض لهذا الاجراء المجحف .
كانت الحياة داخل الموقف بائسة للغاية وتخلو من الجوانب الانسانية . تغلق ابواب الزنزانة في الساعة الثامنة مساء ، ولايسمح بخروج ايّ من الموقوفين من اقفاص الحجز الى الممر الوسطي الا الساعة السادسة صباحا . نقلت في اليوم الثاني الى الزنزانة الاولى التي تضم عادة كبار موظفي الدولة او الاشخاص المعروفين لدى السلطة . لا ادري كيف يقبل اي انسان بمثل هذه الاهانة الكبيرة ؟ فمكتبنا من المكاتب الاستشارية الكبيرة والمرموقة ، وسمعته لدى دوائر الدولة لاغبار عليها ، فضلا عن علاقاتنا الواسعة مع الاستشاريين العالميين .. ولااعلم كيف تجاهلت السلطة ذلك ، وبجرة قلم خضعت الى الوشايات المغرضة والحاقدة ، وقررت الاطاحة به ؟!
ادخل الى هذا الموقف المهندس عدنان فرنكول في اليوم الثاني من توقيفي ، وعرفت ان سبب حجزه يعود الى تأخر عمله في (معهد الدراسات العليا ) الذي ذكرناه سابقا . وبعد التحدث مع عدنان ، شعرت بأن سبب حجزي هو عملنا على وضع التصاميم لتلك البناية ، والملاحظات التي قدمها احد ضباط المخابرات قبل نحو ستة اشهر على التصاميم كانت مفتعلة ، رغم انتهاء مسؤولية عملنا بعد انهاء العقد كما ذكرت .
كان العديد من الاشخاص يُزجون في الموقف هذا بين فترة واخرى ، ومنهم من يبقى لفترة طويلة ، او لمدة يوم او يومين ثم ينقل الى مكان آخر . من الاشخاص الذين لقيتهم هناك عصام شريف الذي كان يعمل على مشروع في الناصرية ، ومدير حسابات امانة العاصمة ، ومدير مصفى البتروكيمياويات في البصرة ، وعشرون عاملا من عمال التنظيف ومن امتنع ابنه عن العودة الى العراق من طلاب البعثات والزبالون في امانة العاصمة ، والعديد من الحزبيين وعدد من موظفي الدولة ورجال دين وضباط او افراد من الامن . كان عدد الموقوفين في تلك الفترة يتجاوز المئتي موقوف ، ولكل منهم قضية او قصة .
كانت لمسؤولي الدولة واعضاء القيادة ووكلاء الوزارات صلاحية حجز العاملين او المتعاملين او المتعاقدين معهم لسبب تأخر العمل معهم لفترات مختلفة ، ولكن اطول فترة كانت من صلاحية رئيس الجمهورية او نائبه ، وهي ستة اشهر . قناعتي ان حجز اي انسان وابعاده عن عائلته والمجتمع امر غير مبرر وغير انساني، وان جميع القضايا يمكن حلها اداريا ، ولا يوجد داع لاسلوب الحجز والتوقيف لابراز قوة سلطة المسؤولين وسطوتهم . كانت اغلبية الموقوفين متذمرة من قساوة السلطة والحزب ، الا ان الخوف من اظهار المشاعر كان سائدا بين الجميع .
من الذين زُجوا في الموقف السيد ساطع مجيد قائممقام قضاء المحمودية ، واتضح انه حجز لخلافه مع متصرف اللواء . وفي احد الايام استيقظ ساطع ، وأسرني بأنه حلم في الليلة الماضية ، بانهيار السلطة والحزب بسبب تفاقم الخلافات بينهما وما حدث لكبار شخصيات الحزب ( يقصد ما سمي بمؤامرة 1979 واعدام عدد من اعضاء قيادة الحزب والدولة ) . غير ان ساطعا تحدث بما سرني به الى اشخاص اخرين وقص رؤياه عليهم . وفي مساء ذلك اليوم طلب احد الموقوفين في زنزانتنا راجيا من ساطع ان يقص رؤياه في الليلة الماضية . وبعد ساعتين استدعى احد ضباط الموقف ساطعا ، بعد ان اتضح ان هذا الشخص الموقوف قد سجل حديث ساطع في مسجل كان يخفيه . اعيد ساطع الى الموقف وهو في حالة انهيار ، اذ تعرض للتعذيب القاسي من ضباط الامن ، لمعرفة ان كان وراء حلمه شيء آخر ! ، ولم يعثروا على شيء ..
بعد نحو اسبوعين من وجودي في الموقف ، طلب مني ليلا ضابط امن الموقف ارتداء ملابسي . ثم اصطحبته عبر ممرات المديرية وقال لي اني ساقابل السيد العام . دخلت غرفة المدير العام . لم اشاهد اي شيء لأن الظلام كان يسود الغرفة ، سوى منضدته وفوقها ضوء يضيء بعض الاوراق أمامه ، لكني لم استطع رؤية وجهه او ايّ من معالمه . طلب اليّ الجلوس على مقعد امامه وكأنه يعرفني . وبعد ان حياني سألني عن سبب وجودي في مديريته . اجبته مستغربا : انا كنت ارغب في ان اسألك السؤال نفسه . فاكد لي انهم ينفذون اوامر القصر الجمهوري .
سألني عن اعمال ( معهد الدراسات العليا ) ، فشرحت له ان علاقتنا بالمشروع انتهت منذ سنوات ، وان مقاول المشروع هو مبدر الجاسم . قال لي : الان عرفت السبب وهو هذا المقاول المعروف بنفاقه وشغبه . وكرر انه مجبر على تنفيذ اوامر سيد القصر الجمهوري ، وهو صدام حسين . انتهت مقابلتي لمدير الامن العام . غير أني بعدها استدعيتُ من قبل ضابط اشغال الامن العامة ، واخذ باستشارتي في اعماله الهندسية في داخل المديرية وخارجها . والمهم انه بعد تجاوبي معه نقل موقع حجزي من الموقف بموافقة السيد العام ، وخصص لي مع عدنان فرنكول غرفة خاصة في الطابق الاول من دائرته . وبعد ان ازداد نشاطنا الاستشاري ، طلب لنا منضدتين للكتابة ، واستحصل موافقة على جلب عدد من الكتب الهندسية وادوات الرسم من بيتي . كما سمح لنا كذلك بجلب ما يحلو لنا من الاطعمة وبعض التجهيزات من عوائلنا اسبوعيا .
قدمت الكثير من التوجيهات الاستشارية لضابط الامن للمشاريع الصغيرة التي يعمل عليها عند طلبه ذلك ، اذ كانت معلوماته متواضعة عن اعمال البناء . والطريف ان الكثير من ضباط الامن الخفر اخذوا بزيارتنا في ( مكتبنا ! ) في الامن العامة ، لاخذ المشورة في مشاكلهم الهندسية في دورهم او دوائرهم . وفي احد الايام طلب مني ضابط الامن رزاق ان ارافقه الى مزرعة السيد العام ، لمشاهدة الدار التي يشيدها في مزرعته . ذهبت معه الى المزرعة الواقعة على طريق بغداد الكوت . وتبين انه كان يجلب معه يوميا عدداً من العمال الموقوفين للقيام باعمال التنفيذ ، وابديت له بعض المعلومات والمقترحات ، وعدنا الى الأمن العامة .
بدأت زيارتنا لمواقع العمل خارج الامن العامة ، بعد ان ازدادت الثقة بي من قبل السيد العام وضباط الامن . وقد سألني احد ضباط الامن مرة ان كنت ارغب بالذهاب الى بيتي خلال النهار ؟ لم اوافق على ذلك لعدم رغبتي بزيارة عائلتي وانا محجوز .. لكني زرت في احد الايام زوجة اخي قحطان اليونانية في دارها وشربنا القهوة سوية بينما قحطان كان لايزال خارج العراق .
نحو عراق جديد سبعون عاماً من البناء والإعمار
التعليقات مغلقة