أحمد فؤاد الخطيب
(1ـ 2)
منذ أن طردت حركة “حماس” قوات “السلطة الفلسطينية” من غزة بشكل عنيف في 2007، فصّل تقرير تلو الآخر تقهقر البنية التحتية وحتمية الأزمات التي سيواجهها القطاع. وكانت الأمم المتحدة قد حذّرت من أن القطاع سيصبح غير قابل للعيش بحلول 2020 – وهو تحذير تكرره بشكل شبه سنوي منذ 2012، وبصوت أعلى وأكثر حزمًا منذ حرب 2014 بين “حماس” وإسرائيل. ورغم أن ذلك قد يبدو منافيًا للمنطق، إلا أن أي خطط استراتيجية كبيرة لإعادة إعمار غزة وتطويرها لن تكون ذات فائدة تذكر في الوقت الراهن. الضرورة الملحة تتمثل بخطوات مدروسة وبراغماتية وتكتيكية من أجل تغيير الوضع القائم، دون فرض أي شروط مسبقة غير واقعية قبل إطلاق مثل هذه الخطوات.
ولم تمر دعوات التحذير من حدوث أزمة مرور الكرام. فخلال العقد الماضي، برز عدد من الاقتراحات الرامية إلى إرساء الاستقرار في غزة وتطويرها عبر مراكز بحوث وشركات وسياسيين أمريكيين وإسرائيليين وفلسطينيين وغيرهم. غير أن أياً من هذه الخطط لم تطبق على أرض الواقع.
وغالبًا ما يتحمل عدد من اللاعبين مسؤولية فشل التطبيق الفعلي لهذه الاقتراحات والخطط: “حماس” بسبب سيطرتها المتعنتة على غزة؛ قيود إسرائيل الصارمة على التنقل والتبادل من وإلى غزة؛ عدم قدرة “السلطة الفلسطينية” على التغلّب على “حماس” ودعم مصالح الشعب؛ إقفال مصر لدوافع سياسية المعبر الوحيد غير الإسرائيلي؛ عجز الولايات المتحدة عن التوسّط لإبرام اتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ لا مبالاة معظم الدول العربية إزاء المشكلة الفلسطينية؛ وفشل المجتمع الدولي النسبي في التركيز بشكل كبير على تحسين الحياة في غزة، بدلًا من الإصرار المستمر على أنها مسؤولية إسرائيل حصرًا.
ورغم أن هذه الاقتراحات تختلف من حيث التفاصيل والفلسفات، إلا أن خيوطًا مشتركة تجمعها، لا سيما غياب قابلية التطبيق الفعلي نظراً للظروف السيئة في غزة. فمعظم هذه الاقتراحات قائم على أساس افتراضيْن لم ولن يصبحا واقعًا في المستقبل المنظور: وحدة سياسية فلسطينية تحت مظلة “السلطة الفلسطينية” وكافة اتفاقاتها والتزامات ذات الصلة؛ ورغبة إسرائيلية في رفع كافة القيود عن التنقل والتجارة من وإلى غزة.
وطالما أن “حماس”، وغيرها من الجماعات في القطاع، تتبنى العنف كاستراتيجية في معارضتها السياسية ومحاربتها إسرائيل وترفض نزع سلاحها، لن تتشكل حكومة وحدة فلسطينية معترف بها دوليًا تضمّ “حماس” ولن يكون هنالك رفع كامل للحصار الإسرائيلي على القطاع الساحلي. فهذا الواقع، الذي يرافقه تقلّب المسار السياسي الفلسطيني، يجعل من المستحيل وضع خطط على المدى الطويل. هذا بالرغم من أن حركة “حماس” تتبنى مقاربة براغماتية عند تعاملها مع الأصدقاء والأعداء، على غرار تحالفاتها المتعاقبة مع لاعبين إقليميين أو قمعها لجماعات مرتبطة بتنظيم “داعش” في غزة. في الموازاة، واستنادًا إلى هذا المشهد غير المشجع، يدفع سكان غزة ثمنًا باهظًا بسبب عجز النظام السياسي الفلسطيني عن تلبية أبسط حاجاتهم الأساسية، ناهيك عن التعامل مع المسائل التي تعتبر أساسية وتعدّ ركيزة الصراع مع إسرائيل.
يتمثل المسار الأفضل لسلوكه في المستقبل في اتخاذ خطوات على المستوى التكتيكي من أجل إرساء الاستقرار في غزة وتحسين نوعية الحياة وزرع بذور غير مكلفة لمشاريع تطوير مستقبلية واسعة النطاق على صعيدي البنى التحتية والاقتصاد، بالإضافة لضرورة قبول واقع الفصل بين غزة والضفة الغربية. وفي حين أن الوحدة السياسية بين غزة والضفة مهمة من أجل المحافظة على فرصة حلّ الدولتين، لدى المنطقتين اختلافات وفرص وتحديات سياسية واقتصادية ومجتمعية فريدة. فالوحدة والتضامن لا تعنيان تجانس الحاجات التنموية. وفي حال وجود فرص لتحسين ظروف سكان غزة قبل تحقيق الوحدة البعيدة المنال أكثر من أي وقت مضى مع الضفة الغربية، لا بدّ من اغتنامها.
يمثّل توفير التنسيق والمساعدة الدولية في قطاع غزة السبيل الوحيد لمعالجة معاناة الشعب الكبيرة، مع الأخذ بالحسبان أن المجتمع الدولي لا يرغب في ترسيخ سيطرة “حماس”. ورغم عدم تلبية الكثير من حاجات غزة، يمكن أن تشكّل مسألتان مهمتان نقطتي انطلاق لتعزيز أمن وسلامة سكان القطاع: إدارة الكهرباء وحرية التنقل.
نظراً إلى الطبيعة الجغرافية والسياسية التي تحكم تشغيل معبري إيرز ورفح، يبقى السكان رهينة ظروف لا سيطرة لهم عليها.
ويمكن لجزء مُتغاضى عنه من التاريخ أن يقدّم حلًا يعالج جزءًا كبيرًا من المعاناة في غزة مع أخذ الاعتبارات الأمنية والجيوسياسية الإسرائيلية في الحسبان. فعقب أزمة السويس في عام 1956، تمّ تشكيل “قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة” في غزة للحفاظ على السلام في شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة، وهذا ما فعلته لغاية صدور القرار الخاطئ والغير استراتيجي من قبل الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر القاضي بطرد القوات في مسعى لترهيب الإسرائيليين. الجدير بالذكر هو أنه قامت قوت الطوارئ بتشغيل مطار في غزة، وقد استفاد منه كل من القوات الدولية وسكان غزة الذين استقلوا طائرات تابعة للأمم المتحدة قاصدين وجهات متعددة مثل مصر ولبنان وقبرص.
لا يَخفى على أحد ارتياب وكره إسرائيل من الأمم المتحدة. ورغم ذلك، تترافق مظلة الأمم المتحدة مع عدة مزايا. أولًا، تتمتع هذه المنظمة بخبرة واسعة في مجال العمليات الجوية الإنسانية في مناطق تعاني صراعات وعدم استقرار. ويمكن تطبيق نموذج “دائرة الأمم المتحدة لخدمات النقل الجوي للمساعدة الإنسانية” بسهولة في غزة. فهذه المؤسسة تعمل بموجب شروط تختلف تمامًا عن منظمات الأمم المتحدة التي تنظر إليها إسرائيل بعين الريبة والنفور، على غرار “وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى” (الأونروا) و”برنامج الأمم المتحدة الإنمائي”. ثانيًا، تمثّل مظلة الأمم المتحدة الأمل الأفضل لإدخال أعداد كبيرة من المراقبين الدوليين وقوات حفظ السلام (الذين سيقتصر وجودهم في مجمع المطار) من دون أن يعتبر السكان المحليون هذا الوجود “احتلالًا أجنبيًا”. فهذا هو الحال بشكل خاص نظرًا إلى الوجود التاريخي والحديث لوكالات مختلفة تابعة للأمم المتحدة في غزة، ويتلقى الآن نحو ثلثي السكان بعض المساعدات من هذه المنظمة. وصحيح أنه غالبًا ما يتمّ استخدام الآليات الجوية للأمم المتحدة لاستعمالات خاصة بها، سواء لنقل العاملين في المجال الإنساني أو نقل مساعدات، إمدادات ومعدات أممية، وفي بعض الأحيان تنقل طائرات الأمم المتحدة مرضى ومدنيين بحاجة إلى مساعدة، خارج الإطار العملياتي المعتاد، كما كانت عليه الحال عقب الزلزال في نيبال أو الفيضانات في باكستان.
من الممكن أن يتم تطبيق نموذج فعال عبر تولي الأمم المتحدة إدارة ومراقبة عمليات جوية لنقل الركاب الفلسطينيين، ويمكن ذلك عبر تشغيل الهيئة لمطار صغير لتلبية حاجات الناس المسافرين عبر ممرات مستقلة غير خاضعة لسيطرة إسرائيل أو مصر. وبدلًا من إنفاق مليارات الدولارات على المنشأة، بإمكان استثمار صغير تصل تكلفته إلى 200 مليون دولار أن يضمن الوصول للقدرة التشغيلية الأولية. ويُعتبر موقع مستوطنة غوش قطيف الإسرائيلية السابقة (مواصي خانيونس) على الساحل الجنوبي الغربي من القطاع الأفضل لإنشاء مطار مستقبلي في غزة. وسيسمح هذا الموقع، غير المطوّر بمعظمه، بإقلاع الرحلات وهبوطها على مقربة من البحر، وبالتالي تجنّب الحاجة إلى استعمال المجال الجوي فوق الأراضي الإسرائيلية والمصرية.