عبد علي حسن
تشتبك رواية (السقشخي) للروائي علي لفته سعيد — الصادرة عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع /القاهرة ط1 2017 — مع الواقع وفق رؤية سردية متخيلة لعلاقة بين طريدين الأول (ماجد) المهاجر والهارب من وطن بات العيش فيه مستحيلا بعد ألوضع الذي تعرض له في أقبية النظام البائد والثاني (زينب) الهاربة من تجربة حب فاشلة ليلتقيا في بيروت ، وكل يجد ضالته في الآخر ، هو يمنح الحب كحالة تعويضية لزينب التي ستوفر له الحماية والثراء من خلال زواجها به والعودة إلى اميركا حيث تسكن وتعمل في إدارة شركة تجارية ، فهي مسلمة ومن أصول لبنانية إلا أنها ولدت وعاشت في اميركا حاملة للجنسية الاميركية . وعبر زمن الرواية الممتد على ثلاثة مفاصل الأول زمن النظام ما قبل 2003 وقد تضمن أحداث وقعت للسارد كلي العلم (ماجد) في سوق الشيوخ مدينته حيث كان يسكن ويعمل معلما إلى خروجه هاربا إلى عمان ومنها إلى بيروت ثم تعرفه على زينب والسفر معها إلى اميركا وزواجه منها هناك ، وبعد 2003 حيث تسنح له فرصة العودة إلى العراق والى مدينته ليشهد التغيرات الاجتماسياسية الحاصلة وأثرها في سلوك وتفكير العراقيين .
وتقوم جميع أحداث الرواية الممتدة على زمني الروي على جملة من الخطابات المتداخلة والمتشابكة حتى لم تترك بياضا نصيا من الممكن أن يملأ من قبل المتلقي ، على ان من هذه الخطابات المشكلة للرؤية السردية هو الخطاب الحجاجي الذي تبدى على نحو واضح ومقصود كان يهدف إلى تكوين تصور حول الشخصية المركزية ( ماجد) ممتلكا لصفة النسب لمدينة (سوق الشيوخ) كما ورد في متن الرواية حاملا عنوانها الرئيسي( السقشخي) كمركب نسبي ، لذا فإن كل أحداث الرواية إنما كانت مدلولا تاما لدالة العنوان إضافة إلى العلامة البصرية التي ضمت شخصاً منكفئاً على ذاته كدالة على وضع الإحباط والنكوص الذي تعرضت له الشخصية المركزية تبعا للمواقف التي تمحورت حول الذات المنتمية إلى الجنوب العراقي الذي يحمل من الإرث التأريخي والإجتماعي ما يجعله متمسكا بصفات ومكونات الشخصية الجنوبية ، وقد اتضح ذلك جليا في تأكيد انتماء الراوي للجنوب العراقي واعتداده بتلك الشخصية التي مارست الفعل الكلامي المتخذ صفة الخطاب الحجاجي ليمتلك هذا الفعل الكلامي التداولي خواص التأثير والإقناع ، وقد تبدى أول ظهور لهذا الحجاج في الرواية في غرفة مديرية امن سوق الشيوخ وإجراء التحقيق مع (ماجد) من قبل العقيد (سدخان) الذي اعتمد تقريرا من احد مخبريه (سلمان بائع القمصان) الذي يكن حقدا على ماجد ، موجها له تهمة التهجم على النظام وعلى شخص رئيسه صدام حسين ،وإزاء هكذا تهمة لم يكن أمام ماجد إلا أن يبذل كل ما لديه من جهد لدفع هذه التهمة عنه، ويمارس تأثيرا حجاجيا لتغيير وجهة نظر المحقق وإقناعه بالحجة بأنه بريء منها ، بالمقابل فإن المحقق يستخدم حجاج السلطة لترهيب ماجد ودفعه إلى الاعتراف وإعطاء أسماء مجموعته المنتمية إلى الحزب الإسلامي المعارض،الذي يفترض المحقق انتماء ماجد لهذا الحزب .
وعلى الرغم من أساليب التعذيب والضرب المبرح على كل أنحاء الجسم إلا أن ماجد ظل متمسكا بموقفه وانه لا يمكن أن يعترف على أحد لا يعرفه ، ثم يبدأ بممارسة حجاج موال بغية إقناع المحقق بأنه يحب صدام والعراق ويكره اميركا وكل جهة تقف بوجه العراق وقائده ، إلا أن المحقق يصل إلى الدلالات غير المعلنة في حوار ماجد ولم يصدق حجته فيستخدم حجاج السلطة في كل محاورته وحججه مع ماجد ، وبدأ ماجد يستخدم حجاجا من نوع آخر وهو الحجاج الداحض بدعوى انتمائه لعائلة معروفة بوطنيتها ونزاهتها وحسن سيرة أبنائها ولا يمكن له أن يخطأ بحق وطنه ، ولعله ينجح في استمالة المحقق الذي بدأ يقتنع ببرائته فيطلق سراحه مع التأكيد على عدم ذكر أي شيء حصل له في التحقيق .
أما الحجاج الثاني فقد كان في اميركا بعد اتهام ماجد بالتخطيط لتفجير برجي مركز التجارة العالمي لأنه كان يقوم بتصوير لحظة الهجوم على البرجين ، ففي هذا الحجاج يستخدم ماجد كل معارفه وخبرته لدفع التهمة عنه وإقناع المحقق ودحض كل الشبهات والاتهامات بحقه وذلك من خلال تأكيده على انتمائه لحضارة ضاربة في القدم وله تقاليدها الإنسانية وعطائها للبشرية وان مدينته الجنوبية هي مهبط أول نبي وحضارة إنسانية ، وفق الحجاج التأريخي إلا أن كل حججه لم تفلح في تغيير وجهة نظر المحقق والمؤسسة الاستخبارية الاميركية التي لا تملك عنه معلومات كافية لتكون مقدمات لوجود نشاط إرهابي في المدة التي قضاها في اميركا سوى وجوده أثناء تفجير البرجين بالقرب منهما مصورا لما جرى وبصحبة زينب زوجته الاميركية التي كان لها الدور الفاعل والحاسم في براءته وإخراجه من المعتقل.
وفي الحجأج الثالث نشهد فيه عودة ماجد إلى مدينته بعد نيسان 2003 ليعرف ان كل شيء قد تغير وأن الناس (على دين ملوكها) فيدخل في نقاشات مع بعض المتدينين الذين يتهمونه بالكفر والانحلال وبأنه ( يحمل أفكاراً أمريكية معادية للإسلام) سيما وقد عرفوا بعودته من اميركا بلد الكفر والانحلال ومرة أخرى يجد نفسه أمام موقف لابد فيه من دفع كل هذه التهم عنه إلا انه لم يجد أذنا صاغية فيفضل البقاء في البيت تاركا للمتلقي تقرير مصيره واحتمال عودته إلى اميركا وزينب التي لم تكن سوى امرأة شبقية وجدت في ماجد ما يسد رمقها العاطفي ، لذا فان احتمال عودته إلى اميركا أمر قائم بسبب من الوضع الجديد الذي وجد فيه الفوضى الفكرية والانحياز الطائفي الذي بدأ ينخر في جسد الوطن .
ويلاحظ في الخطاب الحجاجي الذي امتد على زمن الرواية لما قبل وبعد التحول في البنية الاجتماسياسية العراقية ان الخطاب المتبادل بين المتحاورين (ماجد والمحققين والمتدينين) كان خطابا مونوفونيا أي ان الذات الساردة كانت تختار وتضع الحوار الذي يقدم المقدمات لحججها المتمحورة حولها ، وتبدى ذلك من خلال ضعف وتهافت حجج المحققين والمتدينين فضلا عن المواقف الفكرية والاجتماعية لـ (زينب ) التي كانت تعبر عن وجهات نظر السارد أصلا ، فضلا عن لجوء الراوي كلي العلم إلى خلق بنية الإنقطاع السردي الذي أسهم في تعطيل انسيابية السرد وتدفقه واكتساب اللغة الروائية وظيفة الإخبار والتقرير والوصف الذي أبعدها عن الفصاحة السردية عبر الاختزال وترك الفجوات التي من الممكن ان تملأ من قبل القارىء ، خاصة في مجريات التحقيقات الأمنية ، إذ غالبا ما كان الراوي يقطع تدفق السرد والحوار الحجاجي لينتقل إلى أحداث من خلال مفردتي ( اذكر) و(تذكرت) ليسرد أحداثا كثيرة أضعفت من متابعة وملاحقة مجريات التحقيقات ، على ان خرق التتابع الكرونولوجي قد أسهم في كسر التنميط لمجريات الرواية التي بلغت صفحاتها 345 صفحة مليئة بالأحداث المركزية منها والجانبية التي وجدها الروائي ضرورية للإحاطة بكل مجريات الوقائع التي حصلت للذات الساردة وقد افترضها الروائي علي لفته سعيد لتكون قريبة من التحقق على مستوى الواقع ، وبذا فإن (السقشخي) تضاف إلى سجل الرواية العراقية المعاصرة المقتربة من الواقع وخارجة من معطيات الحراك السياسي والاجتماعي وان اختلفت في زاوية النظر إلى هذا الواقع.
(السقشخي).. حجاج الذات الساردة
التعليقات مغلقة