شكر حاجم الصالحي
ما عليك إلا ان تبتهج وأنتَ تُنهي قراءة ما بين يديك، كتابٌ عن القصة العراقية يتناول فيه مؤلفه ((عبدالله نيازي نموذجاً)). والكتاب هو جزء مقتطع من إطروحة دكتوراه للأسباني الأصل «مارسيلو فيلكاس» نال عنها ((الامتياز)) من جامعة وهران الجزائرية (1987) وتفضل على قرّاء العربية بترجمتها «حسين نهابة» ونشرها في كتاب أنيق صدر عن دار المختار اللبنانية. وعبدالله نيازي قاص عراقي نشر أول مجموعة قصصية له عام ١٩٤٩م، وآخر اصدار له في عام ١٩٧١م، وكانت أول قصة نشرت له في الصحف المحلية عام ١٩٤٨، وآخر قصة نشرها عام ١٩٦٩، ثم لاذ بصمت طويل الى ان نشر بعد ذلك ثلاث قصص هي ((وأوشك الغيم ان يبكي)) في مجلة «آفاق عربية» عام ١٩٧٦، وقصة ((دمعة فرح صباح العيد)) عام ١٩٨٠ «آفاق عربية» ايضاً، وودّع قراءه ومحبيه بقصته [الجد والحفيد] في جريدة «القادسية» البغدادية عام ١٩٨٨، وبهذا يكون نصف قرن من الزمن بين أول قصة منشورة آخر قصة. ومنذ ذلك التاريخ لم نعد نَعرف شيئاً عن منجزاته القصصية وحياته الشخصية، ولم يسعفنا عارفوه بأية معلومة تجيب عن اسئلتنا هذه. ومن مفيد القول إن القاص نيازي أصدر ما مجموعه (٨) ثمانية كتب، كما كتب ونشر العديد من القصص والمقالات في صحف ومجلات زمانه ولم يضّمها في كتاب. وكانت الحصيلة الكلية لإصداراته: خمس مجاميع قصصية، وقصتين طويلتين، وكتاباً نقدياً يتيماً. تناول «مارسيلو فيلكاس» في إطروحته عدداً من الروائيين والقصاصين العراقيين والعرب، ومن بين من تناول أعمالهم القاص والناقد العراقي «عبدالله نيازي». وقد شملت دراسته اربعاً من مجاميعه هي (بقايا ضباب)، (أعياد)، (الهمس المذعور)، وقصته الطويلة (أناهيد). ولم يحصل الدارس على بقية اعماله -كما تشير مقدمة الكتاب- ولقد شكّل نيازي حضوراً فاعلاً في المشهد الثقافي منذ أربعينات القرن الماضي، وبهذا يكون قد جاء مجاوراً لجيل عبدالملك نوري وصحبه الرواد. ويشير «مارسيلو فيلكاس» إلى أنه إستطاع قراءة قصة نيازي ((شجى طائر)) من خلال رسالة عبدالعزيز ماجد الموسومة -القصص العربية القصيرة الحديثة- وفك مغاليقها واتمامها بقرائته لكتاب -النقد الادبي الحديث في العراق- لمؤلفه الدكتور أحمد مطلوب. ورأيت أن أعرض دراسة فيلكاس عن مجموعة نيازي (أعياد) إنموذجاً لمنهج الدراسة الاكاديمية التي نالت [الأمتياز] اذ يقول في تقديمها:
تضم مجموعة ((أعياد)) إحدى عشرة قصة كتبها عبدالله نيازي على مدى عشر سنوات ما بين ١٩٥٢-١٩٦٢م، مع مقدمة تنطوي على الكثير من التأمل الذاتي، حيث يضع المؤلف نفسه داخل إطار النقد بالنسبة للنهج الذي يتبناه جيله الأدبي.
تحتوي ((أعياد)) على أربعة محاور متباينة:
١-قصص ذات مضامين سياسية (أعياد) و(٢٩ تشرين الثاني ١٩٥٦).
٢-قصص ذات مضامين اجتماعية ولكنها مطعمة بأبعاد سياسية جانبية في الوقت نفسه، تمثلها قصتان تتعلقان بالمسألة الكردية في العراق ((حمه)) و((الدليل)).
3-قصص موظفة لوصف البيئة وتمتاز بأسلوبها الواقعي المتوارث في القصة العراقية مثل قصص: درهم، قلق، حسن افندي، الحمارة البيضاء.
٤-قصص تعتمد على التحليل النفسي، وتعتبر امتداداً للقصص التي كان المؤلف يقوم بكتابتها بين (١٩٤٨-١٩٥٢): قتلت أخي، الاطياف القاسية. ويلاحظ ان مجموعة (( أعياد)) تشير -كما يقول ((فيلكاس))_ بوضوح الى الجهود التي يبذلها المؤلف في انتقاء موضوعاته، وتعدد مضامينها، والبحث عن تقنيات جديدة دون ان يكون هناك ارتداد عن نوازعه الضرورية الأولى في تطوره الشخصي والادبي، ويضيف فيلكاس:
وبالإمكان اعتبار (-قلق-و-حسن أفندي-) رائعتين ومتقنتين،.. وفي حديثه عن قصة ((قلق)) يوضح لنا المؤلف فرادة هذه القصة ومغايرتها لمضامين قصصه الأخرى اذ تكون قصة امرأة، وهذا أمر نادر في اعمال عبدالله نيازي اذ يقول:
هنا الامر يختلف المرأة هنا هي الشخص الأساس والفعال، أما الرجل فهو مجرد تابع لها بالرغم من عدم وجود ما يميزها عن الأخريات، المرأة في (قلق) لا تعرف عن الرجل شيئاً ولكن مع ذلك بحاجة إليه، وهذا خلاف ما عودنا عليه في قصصه الاخرى، حيث نرى الرجل يجهل كل شئ عن المراة ولكنه يشعر أنه بحاجة اليها. الزمن الذي سيستغرقه حدث (قلق) لا يزيد على نصف ساعة يمتد على ست صفحات/……/ان القصة تشير في الواقع الى الجنس ولكن على نحو غير مقصود/……/تمتاز (قلق) بالاقتصاد والدقة والاستنباط والقدرة على الإيحاء والكثافة… وهكذا رأى فيلكاس هذه القصة المميزة ضمن نتاج نيازي الذي أتاح لقارئه فرصة التعرف على خفايا العلاقات الاجتماعية وملابساتها وتعقيداتها خلال خمسينيات القرن الغابر، وهو بهذا الكشف فضح ما يدور من صراعات وتجاذبات داخل بيوت عائلات ذلك الزمن لا بل استطاع نيازي ان يطلق المكبوت والمسكوت عنه، في قصة توفرت له كل شروط النجاح من لغة سليمة دالة ومضمون جرئ… وسأنتقل الى عرض مجموعة من نتائج الدراسة التي توصل اليها فيلكاس خلال قرائته لتجربة نيازي التي لم تنل اهتماماً نقدياً كافياً رغم أهميته وحضوره في المشهد الثقافي بفعالية كبيرة. ففي حديثه عن الاشكال القصصية لـ «نيازي» يقول:
«تنقسم أعمال عبدالله نيازي من حيث الشكل أو التقنية الى طريقين رئيستين، تعتمد الاولى على المونولوج الداخلي، فيما تعتمد الثانية على الحوار فقط.»
أما حديثه عن لغة نيازي القصصية فيلخصه بالتالي:
«بالإمكان اعتبار موقف عبدالله نيازي من اللغة موقفاً أسلوبياً، فهو يطلقها تنساب على سجيتها بحرية تامة، وذلك بقصد الحصول على نتائج معينة، سواء من حيث الايقاع، أو من حيث الكثافة ذات النغم الشعري، ومن هذا المنطلق يتخذ نثره السردي وبناؤه الحواري اتجاهات معاكسة…../ والحوار لدى عبدالله نيازي ثري ومختصر وقصير ومؤثر….»
واذا ما أراد القارئ معرفة مكانة نيازي بين مجايليه، فلابد من العودة الى تفحص المشهد القصصي زمنه، ففيه من الاسماء الكبيرة التي كتبت القصة وساهمت بتكريس حركتها التجديدية وصاغت مفاهيمها النقدية اللاذعة بحس اجتماعي دافعه الوعي السياسي وأدواته حركة الناس وتطلعاتها الى غدها المنشود بعيداً عن وصاية القابعين في جحور التخلف والجهل والأمية. ومن الغريب في حياة نيازي الأدبية، هو وقوعه ضحية لما كان يمتاز به من صدق وعمق، فقد ألحقت به كما يشير فيلكاس- هاتان الصفتان ضرراً بالغاً، ذلك لأن الموضوعات التي كان يتناولها والاساليب التي ينتهجها لم تكن تتفق والاتجاهات التي كانت سائدة آنذاك، فلم يلجأ نيازي مطلقاً الى ما كان سائداً من اجواء وظواهر، أو يتخذها مادة لمضامينه القصصية بالرغم من انها كانت تعد بمثابة ضمانة أكيدة للشهرة الأدبية، النهج الثابت والوحيد الذي أعتمده الكاتب العراقي الجديد في ذلك الحين، هو الاتجاه الذي سلكه عبدالملك نوري الذي أبدع في هذا المضمار على نحو أساسي. لقد ساعدت تلك الاجواء لكي تنسحب اعمال نيازي الى الصف الثاني، إلاّ أن إصراره وإيمانه بالتصدي لموضوع التفرد لم يمر مروراً عابراً.
وفي خاتمة هذا الجهد النقدي الذي بذله الأسباني «مارسيلو فيلكاس» ونقله بمهارة الى لغتنا العربية المترجم الحاذق «حسين نهابة» نكون قد استمتعنا بمفردات من تراثنا القصصي وأطلعنا على جهد مميز وإنجاز كبير حققه القاص والناقد العراقي عبدالله نيازي.
وأخيراً…
كم كنا لنسعد أكثر لو ترجم لنا «حسين نهابة» كل ما تضمنته إطروحة فيلكاس التي نالها بامتياز من جامعة وهران الجزائرية… فهل تتحقق الامنيات… هل؟