خواطر عن العراق.. منذ الطفولة !

من أحاديث الثلاثاء
(2-2)
الدكتور زيد حمزة

في عهد عبد الناصر لم يكن خافياً أن الخلافات مع العراق كانت مركزة على مواقف نوري السعيد المعادية للسياسة المصرية خصوصاً بعد ظهور مخططات حلف بغداد فقد حاربته مصر حرباً اعلامية شديدة وكنا نحن في القاهرة كيسار اردني ضد هذا الحلف خصوصاً بعد ان طُلب من الاردن الانضمام له وقامت المظاهرات في شوارع عمان وباقي المدن الأردنية والفلسطينية ما ادى الى طرد القائد البريطاني تمبلر الذي جاء في كانون أول 1955 لفرض الحلف على الاردن وسقطت الحكومة بعد 6 أيام من تشكيلها لهذا الغرض أي للتوقيع على دخول الحلف !
****
عدت الى الاردن عام 1956 لكي اعمل كطبيب في وزارة الصحة ولم انضم الى الحزب الشيوعي وعندما قامت الثورة في بغداد سنة 1958 تحمس الاردنيون كثيراً لعبد الكريم قاسم لكن هجوم صحافة مصر عليه قلّل من هذا الحماس وأَلقي القبض على الكثير من الناشطين السياسيين لم اكن بينهم لكن بقيتْ عليَّ لدى اجهزة الاستخبارات علاماتُ استفهام .. وحين اتيحت لي فرصة الابتعاث الى الجامعة الأميركية في بيروت لحضور دورة عن الطب النووي وبدأت الاستعداد فوجئت بتلك الاجهزة ترفض السماح لي بالسفر بحجة مشاركتي في اعمال المقاومة الشعبية في شوارع بغداد .. وهي تهمة مزيفة لم تخطر ببالي ابدا لأني في تلك الفترة كنت على رأس عملي في المستشفى واستطعت ان اثبت ذلك من ملفاته . ومن جواز سفري الخالي من اي اختام لسلطات الحدود، وقد صدقوني في النهاية وسمُح لي بالذهاب الى بيروت .
لكن زيارتي الحقيقية الأولى لبغداد فلم تقع الا في عام 1968 بعد تشكيل لجنة انقاذ القدس برئاسة سليمان النابلسي، وكنت عضواً فيها بصفتي أمين سر التجمع الوطني . وقد ارسلتْ وفوداً الى قادة الدول العربية لاثارة الاهتمام بالقدس ومنع تهويدها ، وكان ان ذهبت الى العراق مع نقيب المحامين سليمان الحديدي وهو احد قادة حزب البعث في الاردن وفي الذهن بغداد عاصمة الرشيد الرائعة لكني اصارحكم بأن مظهرها العام صدمني إذ قارنته بالقاهرة ؛ شوارعها ترابية، والمجاري مفتوحة في بعض الطرق وفندق بغداد الكبير ذو الشهرة الواسعة لا يداني مستوى فندق عظيم مثل سمير اميس في القاهرة ، وكانت الصدمة الثانية سياسيةً عند مقابلة رئيس الوزراء طاهر يحيى الذي تكلم كثيراً ولم يتح لنا الا بعض الحديث ! أما مقابلتنا
التالية فكانت لرئيس الجمهورية عبد الرحمن عارف وأول انطباع عنه انه غير سياسي بل عسكري يشبه في عفويته الضابط العسكري الاردني المعروف عندنا حابس المجالي، كما قابلنا بعد ذلك سياسيين ومسؤولين وبعضهم بعثيون من رفاق واصدقاء الاستاذ سليمان الحديدي، ولم نسترح لمجمل زيارتنا هناك ..
****
بعد سنوات قليلة وصل صدام حسين الى حكم العراق ومن خلال شريط فيديو قُدم كهدية لعبد الحميد شرف بعد زيارة رسمية قصيرة قام بها لبغداد كرئيس للديوان الملكي الاردني صُعقنا حينما شاهدنا الرئيس صدام نفسه على المسرح يستمع من دون اي انفعال لأحكام الإعدام على رفاقه وهم جالسون قربه بين الحضور! وحين قامت الحرب العراقية الايرانية هب كثير من الناس يؤيدون صدام وقد انطلت عليهم الحجة بانه يدافع عن كل العرب من خلال حماية البوابة الشرقية من العدو الايراني ! وقليلون كانوا يتحدثون عن حقيقة هذه الحرب التي تدمر البلدين الجارين لحساب دول اجنبية كبرى .
لقد تصادف أن عُينت وزيرا للصحة في منتصف الحرب وذهبت لبغداد في اجتماعات مجلس وزراء الصحة العرب ، وذات يوم مر صاروخ ايراني فوق رؤوسنا ونحن مجتمعون فلاحظنا اصفرار وجه وزير الصحة العراقي الدكتور صادق علوش الذي خلف الوزير السابق د. رياض ابراهيم الذي اتهم زوراً باستيراد محاليل وريدية سممت الجرحى في الحرب فأعدم (!) والحقيقة معروفة للجميع ، وفي أثناء تلك الاجتماعات أبلغني سفيرنا ببغداد ان الملك حسين قادم لزيارة صدام ومن المناسب ان أذهب معه لاستقباله في المطار وقد نبهني خوفاً علي من بطش الحرس الخاص للرئيس الا ألوّح برفع يدي في اثناء ذلك لأن هذه تحية خاصة لا يقوم بها إلا السيد الرئيس .
وفي انتظارنا في المطار شاهدنا الملك قادماً ووراءه يتهادى مختالاً الرئيس صدام يصافح ويعانق المستقبلين وبعض الابتسامات تخفي وراءها رعباً ! لدى خروجنا وصل عدد كبير من السيارات المرسيدس الفاخرة المتشابهة ومر اكثرها بسرعة فائقة وتوقفت احداها بكوابح شديدة ودخلها صدام ليقودها وجلس بجانبه الملك وانطلقت بمن فيها كالصاروخ ! وقيل لنا ان تلك طريقة للمحافظة على حياة الرئيس وضيوفه الكبار من اي كمين !
نزلنا كالعادة في فندق الرشيد ونبهنا السفير الى ان بكل ركن من أركانه اجهزة تنصّت وتجسس تحصى الحركات والسكنات فكنت اخاطب زوجتي في غرفة النوم بالكتابة في الهواء بصمت !.
أما الزيارة الأخرى المختلفة لبغداد في اثناء الحرب فكانت ليلاً بمعية الملك حسين واليكم القصة من اولها، كنا في مجلس وزراء الصحة العرب قد قررنا إنشاء مستشفى في القدس نهديه للشعب الفلسطيني الذي حرم من خدمة مستشفى الهوسبيس بعد ان أغلقته اسرائيل .. وكان لابد من دعم مادي ومعنوي للمشروع ورأي مجلس وزراء الصحة العرب إرسالي الى الكويت للتعاون مع وزير صحتها الدكتور عبد الرحمن العوضي في اقناع مؤتمر القمة الاسلامي المنعقد هناك لتبني المشروع وبعد أن أنهينا المهمة (الدكتور العوضي وأنا) طلب مني رئيس الوزراء السيد زيد الرفاعي الانضمام الى الوفد الاردني الذي كان يرأسه جلالة الملك ثم أبلغني ان جلالته يريدني أن اعود معهم بطائرته الخاصة فألغيت الحجز في شركة الطيران ، وفي المساء توجهنا الى عمان لكننا علمنا بعد قليل أننا سنهبط اولاً في مطار بغداد لان جلالته يريد الاجتماع بالرئيس صدام لاطلاعه على وقائع المؤتمر الذي تغيّب عنه بسبب الحرب ، وفي قاعات المطار الخاص الخاوية إلا منا والساكنة إلا من اصواتنا ونحن نسلي انفسنا باحاديث عن المؤتمر وبعض مفارقاته وطرائفه ! ثم أُدخلنا الى قاعة صغيرة يتصدرها مقعدان ضخمان جلس عليهما الزعيمان وران صمت ثقيل استمر لدقائق بطيئة قطعها الرئيس صدام وهو يرتدي لباسه العسكري الكامل وهو لم يدرس في اي كلية حربية بملاحظة غريبة وجهها للشريف زيد بن شاكر القائد العسكري الخبير المحترف قائلا (( تَرى التدريب مهم يا أبو شاكر)) !! فابتسم ابو شاكر بادب ! كان العراق آنذاك يواجه اياما صعبة في حربه مع ايران اثناء معركة الفاو، وجاء ضابط كبير ليشرح لنا على خارطة معلقة على الجدار تفاصيل المعركة التي لم نفقه منها شيئاً ، ثم ران الصمت مرة أخرى ولم يقطعه سوى دعابة اطلقها السيد زيد الرفاعي فضحك الجميع حتى الذين لم يفهموها وقمنا لتناول عشاء بارد كان جاهزاً ينتظرنا منذ ساعة هبوطنا !
آخر الخواطر عن العراق تتعلق بما حدث بعد غزوه للكويت واحتجاز الرهائن الاجانب وتهديد أميركا وحلفائها بشن الحرب لاخراج القوات العراقية منها بالقوة ، ومن المعروف كيف حاول الكثيرون إقناع الرئيس صدام بالافراج عن الرهائن وبضرورة الانسحاب وقد بذل الملك حسين في هذا الشأن جهوداً مضنية ، وجاءت وفود صديقة عديدة لهذا الغرض منها وفد من ليبيا برئاسة عبد السلام جلود وعضوية الدكتور مصطفى الزايدي وزير الصحة الليبي السابق الذي اطلعني على خطة الوساطة، كما اجتمعت على عشاء مع الامير رعد بن زيد حضره خوسيه اورتيغا رئيس نيكاراغوا الذي جاء لنفس الغرض ، وسافر هؤلاء جميعهم الى بغداد وعادوا منها بعد لقائهم بالرئيس صدام بخفي حنين وصفوا عدم اكتراثه بكل التحذيرات واعتداده بنفسه وثقته المطلقة بقوة العراق العسكرية القادرة على رد ودحر أي عدوان ومنها قصة المطار السري المبني تحت الارض ويمكن في حالة تدمير المطار الحالي قلبُه ميكانيكيا ليحل محله .. وعرفنا فيما بعد ان ضابطاً اردنياً كبيراً سابقاً كان من بين مصدقي هذه الخرافة !
وفي نهاية هذه الخواطر لا بد لي من القول بان العراق الجار والشقيق كان في الزمان الماضي بعيداً عنا ربما لبعد عاصمته عن عاصمتنا براً بمسافة طويلة جداً مقارنة مثلاً بدمشق، لكنه الآن قريب، وبعد أن تستقر الاوضاع سيعود لنا أقرب فأقرب خصوصاً بعدما تعرفنا على عدد كبير من الاخوة الضيوف العراقيين سياسيين ومثقفين بينهم أساتذة جامعات واطباء ومحامون وفنانون وشعراء ممن اسهموا بدرجة أو أخرى في تاريخ العراق الحديث ، كما سعدنا كثيراً بمن اصبحوا لنا أصدقاء حميمين ، وبعضهم أراهم اليوم في مجلس ((الثلاثاء)) .. والسلام عليكم .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة