من يصنع الثقافة ؟

لم أكن أصدق وأنا ما أزال على مقاعد الدراسة أن عامل بناء مخضرم، أو نجاراً ذا تجربة، أو طاهياً في مطعم راق، يمكن أن يكون من صانعي الثقافة. وأن الآثار التي يتركها أي منهم على شكل الحياة، وطبيعة المجتمع، وسلوك الناس، ليس لها حدود. فقد كنت أظن أن الأدباء الكبار، والفنانين المشهورين، هم وحدهم الذين يضعون الأسس المنطقية للثقافة، وأنهم المعنيون من دون سواهم بتطوير أدائها، وتقويم حركتها. وما على الآخرين إلا الاستمتاع بثمارها، والإفادة من نتاجاتها.
وكانت وزارات الثقافة في العراق والبلاد العربية المجاورة تسير في هذا الاتجاه أيضاً. وهي جميعاً حديثة التكوين، ولم تنفصل عن وزارات الإعلام أو الإرشاد كما كانت تسمى من قبل، إلا في الثمانينات. وهذا هو السر في تردي أدائها. إذ أن الإعلام في نظام تهيمن عليه، وتتولى رسم سياساته، السلطة المركزية، هو اللاعب الأكبر في المجتمع. وهو الذي يدير مؤسسات الدولة ويقوم بضبط إيقاعاتها. وهو الذي يصنع لها السلم والحرب والدكتاتورية والتحالفات الدولية. ولأن الثقافة كانت واقعة تحت جبروته، فإنها لم تستطع إلا بقدر ضئيل ممارسة دورها الحقيقي في المجتمع.
ولكني أدركت بعد أن أتيح للثقافة أن تستقل بنفسها عن الإعلام، وتتفرغ لشؤونها الخاصة، أنها أشد اتساعاً مما كنت أظن. وأن مجال عملها هو أكبر وأعظم. وأنها برغم التضييق على وزاراتها في بلدان عديدة ومنها العراق، خرجت عن الطوق، وتحررت من الهيمنة. ويكفي أن أحد أكبر فروعها على الإطلاق، كان يتمثل بدار الأزياء، التي كادت أن تبتلع الوزارة بمن فيها.
ولست أشك الآن أن مفهوم الثقافة ذاته في تغير مستمر. وأن أنواع الحرف التي بدأت تدخل في إطارها، هي اليوم أعظم من أي وقت مضى. فالمبرمجون الذين يعملون على الحواسيب، والمصممون، وواضعو الألعاب، ومبتكرو الأنظمة، هم اليوم في طليعة صانعي الثقافة. ولكن أياً منهم لم يكن معروفاً قبل ربع قرن من الزمان، وهكذا.
وقد اعتاد الناس في السنوات الأخيرة أن يقضوا وقتاً غير يسير لمشاهدة برامج إعداد الطعام. وبدأت الإذاعات تستقطب كبار الطهاة لعرض مهاراتهم على الشاشة. وأصبح عدد منهم في عداد النجوم. وربما لم ينتبه الكثيرون إلى أن هؤلاء عملوا على عولمة المطابخ المنزلية، وجعلها متشابهة في كل مكان من العالم، الغني منه والفقير على حد سواء!
في هذا الزمن الذي أضحت فيه الكتب سلعة غير نافقة، والفنون مهنة غير مربحة، والشعر حرفة لا تستهوي أحداً، والفلسفة عمل لا يتهافت عليه أولو النهى، فإن من الطبيعي أن تتحول الثقافة عن إطارها التقليدي وتصبح شيئاً آخر غير الذي عهدناه من قبل. وتكون فيه الكلمة الفصل لأناس لم يكونوا منتمين لها بأي شكل من الأشكال.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة