القسم الثاني
د. نادية هناوي سعدون
استكمالا لمقالي السابق المنشور في ثقافية جريدة الصباح الجديد في 29 آب 2017، وتلبية لرغبة بعض الأصدقاء والصديقات ..أواصل النمذجة النقدية والتنقيب في المقتطفات التي توشح مجموعات قصائد النثر أو تذيل أغلفتها الخلفية لندلل على مدى العلاقة بين فاعلية النقد وكيفية تأدية الناقد لوظيفته وهو يقوم باختزال إبداعية قصيدة النثر في بضع سطور تختم متنها الشعري أو تفتتح المتن ببضع صفحات تدشنه وتستبقه.
ومعلوم أن الشروع النقدي في التقديم لمجموعة قصائد نثرية لشاعر أو شاعرة أمر ليس بالجديد فقد إعتاده بعض شعرائنا ومارسه بعض نقادنا أيضا بينما أصرَّ آخرون على ترك قصائدهم تواجه قراءها بلا إشراك للنقد ولا تدخل للنقاد ربما لأن هؤلاء الشعراء يعلمون أن القصيدة تحمل في داخلها جسور تواصلها مع القارئ ومن ثم هي لا تحتاج إلى وسائط بينها وبين القراء وأن النص ما دام قويا فإنه سيفرض وجوده قرائيا، معرِّفا بهويته ودالا على نفسه بنفسه.
ولعل في هذا التبرير وذاك التفاوت في النظر لمسألة التقديم والتذييل، ما يجعل الأمر يبدو منطقيا نظرا لاختلاف الأذواق والتجارب الشعرية من ناحية، وتفاوت المواهب والإمكانيات من ناحية أخرى وقد يبدو الاحتفاء والتعريف هو أحوج ما يحتاجه الشاعر الفتي أما تقديما وتذييلا وأما مباركة من شاعر كبير أو ناقد وبما يبث الأمل في ذاته ويزرع الثقة فيها.
وهذا لا يعني أن الشعراء المحترفين والواعدين لا تغريهم عملية التقديم لكنها تظل أيضا رهنا بالمباركة والدعم والمؤازرة التي لا علاقة لها مباشرة بالنظر النقدي المبني على الرؤى الموضوعية والتجليات الفنية كون المباركة لا تقدم خيرا ولا تدفع سوءا كما أنها ليست إسعافا للموهبة ولا تقييدا لها ولا هي استنبات للثقة أو استعطاف للقارئ.. لاسيما إذا كان التقديم أو التذييل لا يخاتل القارئ أو يخونه ولا يراوده أو يتآمر عليه احتيالا أو مشاكسة، أو تعمية أو مراوغة كما لا يكون مجرد مساندة تعاضد الفعل الإبداعي وتؤيده.
ولأجل النمذجة فاننا نقف عند قصائد النثر المعنونة( أنت وأنا وربما نحن) للشاعر بهنام عطا الله التي لم يسع فيها الشاعر إلى وضع تجنيس محدد لها، فتركها تحت مفردة( نصوص) وكأن مهمة التجنيس ووسم تلك القصائد بأنها نثر أو شعر هي مهمة القارئ بنوعيه العام الذي يقرأ لأجل أن يتذوق، والقارئ الحاذق الذي يقرأ لأجل أن يرصد وينقد.
وقد تصدى الناقد د. جاسم خلف الياس لتحليل النص بمقدمة تحت عنوان( نصوص تحتمي بالانفتاح وتعمل على تخصيب التجربة) لكنه لم يحدد اجناسية تلك النصوص واكتفى بالمراوحة بين مفهوم التنافذ الاجناسي و(أن النصوص تحتمي بالانفتاح) وبين مسألة انسيابية النصوص وانها(تتسربل بالغموض) وأن الكتابة عند الشاعر( ممارسة لتحقيق الهوية )
وفي الوقت الذي يصر فيه الناقد المقدم على تسمية الناص( بهنام عطا الله) بالشاعر إلا إنه لا يسمي النصوص قصائد ولا يمنحها سمة الشاعرية متحدثا عنها بوصفها وجعا( يتفاعل بين الشاعر ومتلقيه) وأنها تميل إلى التشخيص عادا النصوص مرثية يحترق فيها الشعر ويصير رمادا وانها توظف الرؤية اليومية بقسرية شبهها بالسوط وفي الآن نفسه توظف الأسطورة..!!
ان عدم إفصاح الناقد المقدم عن اجناسية النصوص وتركه لها مبهمة نكرة مثلما أراد لها مؤلفها الشاعر يعني تنازل الناقد عن دوره في التعريف وبناء المعطيات النقدية من دون مخاتلة ولا مواربة ولا التفاف أو إغماض.
ويتجلى هذه كله وبشكل أوثق من خلال النص الذي وشَّح خلفية القصائد النثرية والمقتطع أصلا من المقدمة ومما جاء فيه( لم يكن اختيار بهنام عطا الله للشعر وطنا إلا في مملكة ندية فقدم لنا ضمن نصوصه مرثيته بوعي ورؤية كونية تنفتح على وعي قرائي وهو يرى الشعر يحترق ويصير رمادا)
إن من وظائفية النقد أن يضع الناقدُ القارئ دوما في الصدارة ليغدو ما تقصَّد المؤلف/الشاعر تغييبه والالتفاف عليه ، يسعى الناقد بدوره إلى كشفه وإزالة اللبس عنه ورفع أقنعته ليبدو جليا أمام القارئ تقديما أو تذييلا أو احتفاءً وبهذا يقدم الناقد يد المساعدة للقارئ محاولا تمكينه من فهم النص..وفداحة الاستهانة بالقارئ تجعل النقد نصا إبداعيا لا اشتغالا علميا أن لم نقل فلسفيا والذي هو المبتغى والمرجو من فعل النقد اليوم في ظل ضرورات التعاطي ما بعد الحداثي..
وإذا كان هذا الفعل هو ما ينبغي على الناقد تأديته، فإن في التقديمات المختزلة والتذييلات المحددة ما يجعل الوظيفة النقدية تشتغل هنا بشكل أكثر فاعلية بحكم الاختزال والقصر وهكذا يضع الناقد لقارئ النص النقاط على الحروف، مدللا على هوية النص وإجناسيته كأن يكون قصيدة أقصوصة أو قصيدة عمود أو ومضة أو هايكو أو قصيدة بالاد أو قصيدة نثر أو نص مفتوح أو تفعيلة أو حرة أو مركبة أو مفردة ، ومن غير دخول في تفاصيل النظرية والرؤية والمنهج، مع تحديد الضابط المنهجي والاتجاه الادبي وتحديد المسار الموضوعي والإطار الفني ..
واذا كان هذا التوصيف الادائي ليس قاعدة إلا إنه يظل اشتراطا يحتم على الناقد المقدم او المذيل أن يقوم به وهو بصدد التعريف أو الاحتفاء بقصيدة النثر.
وننتقل الى نتاج شعري آخر عنوانه(عراء الوسائد) للشاعرة منى السبع وفيه تتحدد قصائد النثر بأنها مجموعة شعرية ويضع الروائي محمد سعدون لهذه المجموعة تقديما بعنوان( تلويحة خاطفة ومن بعيد) وهو بمثابة دعوة للقراءة والاحتفاء بالشاعرة بلا أدنى اشتراطات سوى أن في المجموعة ( صوت امرأة ساخطة.. تحتاج من قارئها أن يعاضدها…ويعيد لقلبها المضطرب ولو جزءا من رجاء مفقود)
وهذا ما يجعل التقديم ليس اشتغالا نقديا له علاقة بالنقد بوصفه علما له سياقاته وأنظمته وانما هو رسالة تمد الجسور بين الشاعرة وقراء قصائدها ودعوة بيضاء لتدعيم عرى التواصل والاتصال وفي هذا بعض النجدة للشاعرة وكأن الناقد المقدم عريف وعراب مهمته الاحتفاء والترحيب حسب.
أما قصائد النثر في المجموعة المعنونة(مناجم الأرق) للشاعرة نجاة عبد الله فإنها عائمة بلا تحديد أجناسي في حين يتوشم غلافها الخلفي بتذييلات لثلاثة نقاد هم علي جعفر العلاق وفريال غزول ومحمد الجزائري وبثلاثة مقاطع نقدية وكل مقطع لا يتجاوز أربعة أسطر ..
وإذا ما قرأنا كل مقطع على حدة؛ فإننا سنجد مجرد احتفاء بالمجموعة بمناسبة فوزها في مسابقة شعرية مع إشارات مقتضبة لبعض النصوص ولو بحثنا عن رؤية نقدية ذات توصيف موضوعي بعيد عن الاحتفاء والتعريف فإننا لن نجد ذلك البتة.
ومن خلال هذه النماذج الثلاثة التي مثَّلنا عليها آنفا، يتضح لنا البون الشاسع والكبير بين نقد منهجي يحلل قصيدة النثر ويشخص تموضعاتها.. وبين نقد انطباعي يبارك قصيدة النثر ويحتفي بشاعرها وهذا النقد يأخذ مكانه أما في مقدمات قصائد النثر أو خواتيم أغلفتها الخلفية.
ونستثني من ذلك بعض التقديمات والخواتيم التي تم اقتطافها من دراسة أو بحث كان قد كتبه أحد النقاد ونشر في مجلة أو صحيفة أو كتاب عن قصائد نثر لشاعر أو مجموعة شعراء ..فيأتي الشاعر أو الناشر ويقتطع منه مقتطفا كي يوشح به المجموعة الشعرية وهذا ما لا علاقة له بقصدية الاحتفاء والمباركة التي نحن بصددها كون التوشيح يظل داخلا في إطار النقد المنهجي الموظف بقصدية علمية وغائية موضوعية ..
وهذا ما يستحسنه بعض الشعراء تبيانا لمستوى الاداء والفاعلية التي تنطوي عليها أعمالهم الابداعية اولا، ورغبة في تأشير مناح قصدها المبدع وتمكن الناقد من رصدها آخرا.
وفي ذلك فاعليتان فاعلية النقد وفاعلية الأدب الأولى بوضعها اليد على مميزات هذا الادب والثانية بتوكيدها مستوى هذا النقد في موضوعيته وحياديته.