لم تشذ وزارة التربية والتعليم عن خارطة طريق “ثوابت الأمة” والتي اعتمدتها منذ أكثر من ألف عام، والمتمحورة حول منهج (النقل والتلقين) بعد أن أدرك “أولي الأمر” خطورة الفضول المعرفي واعتماد العقل في التعاطي مع ما يحيط بنا من ظواهر وتحديات مادية ومعنوية. هذا المنهج الكارثي في “التفكير” تسلل عند غير القليل من متنفذي المشهد الراهن، الى صبغتهم الوراثية، إذ لا تنفع كل الوسائل لردعهم عن هذا السبيل المميت. لذلك نجدهم يتعاطون مع كل أنواع الهزائم والكوارث التي حلت علينا جرّاء هيمنة هذه العقلية المعطوبة، بوصفها تجلياً لمشيئة القضاء والقدر والتي لا يفك طلاسمها حتى الراسخون في العلم..! يستغرب البعض من النتائج التي تمخضت عنها الامتحانات الأخيرة للمرحلة الإعدادية، ويعدها بمنزلة نكبة للتعليم العراقي، لكن عند التمعن قليلاً فيما حصل ويحصل في شتى الحقول المادية والمعرفية والقيمية، نجد مثل هذا الحصاد عند وزارة التربية والتعليم يتناغم وينسجم مع كل ما يجري على هذه التضاريس المنكوبة بالقتلة والحمقى واللصوص.
إرث مئات السنين من “مدارس” الملالي وتسمية رجال الدين بـ (علماء الأمة) وغير ذلك من العلوم والمعلومات المجهضة، لا يمكن أن تزول عبر الرغبات والتمنيات الطيبة أو المواعظ التي لا تلتفت الى العلل الفعلية وراء كل هذا العجز والفشل الذي لا يطيق فراقنا دون بقية سلالات بني آدم، التي أكرمتها الأقدار بنعمة استعمال العقل وملكاته الإبداعية، والتي تقف اليوم على تخوم ثورات علمية وقيمية لم تحلم بها البشرية من قبل. من سوء حظ سكان أقدم الأوطان البشرية (العراق) والمشهود لهم بالعلاقة الوثيقة بكل ما يمت بصلة للعقل والفضول المعرفي وتدشين المغامرات العلمية والوجدانية، أن تقع مصائرهم بعد عقود من الحكم التوليتاري البغيض؛ بيد جماعات وكتل مسكونة بعقائد وسرديات القرون الوسطى، لننحدر بمعيتهم الى أوضاع وأحوال لم تتخيلها أكثر المخيلات سوداوية وتشاؤماً. إن الدعوة لإصلاح حال التربية والتعليم من دون وجود مشروع وهمة وإرادة للتغير الشامل السياسي والاقتصادي وما يرافق ذلك من تحولات وتشريعات وقرارات مسؤولة وشجاعة؛ لن يكون أكثر من دقلة إضافية الى ما نمتلكه من إرث في هذا المجال.
مثل هذه الآمال المشروعة والملحة لشعوب عانت الويلات ودفعت أقسى الفواتير في سبيل ذلك، ما زالت بعيدة المنال، وقد تعقدت أكثر مع ترسخ نفوذ قوى (النقل والدرخ والتلقين) والعبودية والخنوع، على حساب منظومة العقل النقدي ومناخات الحرية والكرامة والحقوق. لا يمكن انتظار حدوث أية تحولات لصالح قيم الحداثة والتعددية والديمقراطية الفعلية، لا في حقل التربية والتعليم ولا بقية الحقول، بمثل موازين القوى الحالي المختل بنحوٍ لا مثيل له لصالح من يمثل بعقائده وممارساته وسلوكه الفردي والجمعي، الضد النوعي لما يطلق عليه إخوانهم النيجيريون بـ (البوكو). لم يعد سراً أمر المكانة التي يحتلها هذا الحقل الحيوي في حياة الأمم (التعليم) بوصفه الرافعة الأساس لاستقرارها وازدهارها عبر ما يعرف بـ (اقتصاد المعرفة) ولدينا الكثير من الأمثلة المتوهجة على النجاحات الهائلة التي حققتها مجتمعات كانت قبل عقود قليلة ضمن قافلة الشعوب المتخلفة، لكنها نهضت بعد أن وضعت القتلة واللصوص والحمقى في المكان الذي يليق بهم، لا على سنام المفاصل الحيوية للمجتمع والدولة، كما هو حالنا قبل “التغيير” وبعده. وكما قيل قديماً (أمرنا صعب مستصعب) لكنها تبقى بلاد العقل وباكورة المغامرات الفكرية ومسقط أول عجلة دارت على تضاريس هذا الكوكب..
جمال جصاني
وزارة “النقل” والتلقين
التعليقات مغلقة