ليس لهذا وجد الاستفتاء

الاستفتاءات وجدت مع تطور المجتمعات كوسيلة يستعان بها من أجل التعرف على الاصطفافات الفعلية للرأي العام تجاه قضية معينة، ينقسم الموقف منها وفقاً للميول والمصالح والاتجاهات في زمان ومكان معينين. وفي هذه الوظيفة تكمن أهميته وضرورته لا في قضية محسومة بشكل مطلق ولا يتناطح في معطياتها كبشان، كما هو حال الاستفتاء المقرر إجراؤه بتاريخ 25 أيلول المقبل حول مصير كردستان، وإقامة الدولة الكوردية المستقلة. من الصعب العثور على كوردي لا يهدد في أحلامه مشروع قيام الدولة الكوردية المستقلة، وهذا الاستفتاء في موضوعه يشبه إقامة استفتاء في جنوب العراق سؤاله هو: هل تحبون الإمام علي والأئمة من بعده أم لا..؟
خطورة مثل هذه الاستعمالات العقيمة لوسائل حديثة ومتطورة مثل (الاستفتاءات) يتجلى في الاستثمار فيها بعيداً عما وجدت من أجله. ولم نسمع عن أصحاب مثل هذه التقنيات والوسائل الحديثة، أنهم لجأوا اليها لمعرفة نتائج محددة مسبقاً، ليعيدوا بذلك اكتشاف الأوليات والبديهيات المتفق عليها. مثل هذا الاستفتاء يذكرني بأول استفتاء أجري في إيران بعد زوال نظام الشاه العام 1979 وكان سؤاله الذي لايقبل إلا جواباً واحداً لا شريك له، هو لمن تصوت: للنظام المباد أم لجمهورية إسلامية؟! ليحصد النتائج الباهرة التي تعرفنا عليها جميعاً. مصيبتنا في هذه المضارب بغض النظر عن شتى المنحدرات والرطانة والأزياء، أننا نعتصم بثوابت واحدة تقريباً صقلتها قرون من العبودية والخنوع والتخلف، وقد تحولت الى تقاليد راسخة في التعاطي مع كل ما يمت بصلة لمنظومة التعددية والحداثة والحريات، التي تطورت بعيداً عنا لأسباب موضوعية وذاتية تطرقنا اليها مراراً. لذلك أصبحنا جميعاً (عربا وفرساً وكوردا وتركمانا و…) لا نجيد سوى الإساءة لمثل تلك المفاهيم والتقنيات والمفردات الحديثة (الحقوق والحريات والصناديق ومواسم الاقتراع..) أو كما اختزلها البعض بدقة بالغة عندما قالوا (نحن مع آليات الديمقراطية لا مع روحها وفلسفتها) وهذا ما حصل ويحصل تماماً في مثل هذه الفزعات، والتي لن يكون استفتاء 25 أيلول خاتمة لها.
البعض من “صقور” فزعة الاستفتاء، وبعد موجة ردود الأفعال المحلية والإقليمية والدولية غير المؤيدة لذلك، سارع لإطلاق تصريحات يقول فيها؛ إن إجراء الاستفتاء ليس من أجل الانفصال وإقامة الدولة المستقلة، بل من أجل الضغط على حكومة بغداد والوصول بالتالي لاتفاقيات جديدة..! ومثل هذه الخطابات تعكس حجم الاغتراب الذي تعيشه هذه الشخصيات والقوى عن المغزى الحقيقي للتطلعات المشروعة في تقرير المصير على أساس راسخ من قيم الحرية والتعددية والديمقراطية، لا استغلال كل ذلك من أجل مصالح حزبية وفئوية ضيقة، لم نحصد منها سوى المزيد من الانحطاط والتشرذم وكراهة الآخر المختلف. إن معادلة المنتصر والمهزوم بين بغداد وأربيل والتي اتبعت من قبل غالبية الأطراف المتنازعة حتى هذه اللحظة لم ولن تحقق أية مكتسبات فعلية لجميع الأطراف، وهي معادلة لا تتنافر ومصلحة سكان هذا الوطن القديم من شتى الرطانات والهلوسات والأزياء، بل تتناقض وجوهر التحولات الديمقراطية التي دوّنها دستور العراق الديمقراطي الاتحادي الجديد. ليس بزوال العراق تتحقق أماني كردستان ولا بضعف الكورد وتشرذمهم يحقق العراق وحدته واستقراره، بل عبر ترسخ التجربة والوعي والمؤسسات الديمقراطية ومد المزيد من جسور المحبة والثقة بين شعوب أقدم الأوطان تتحقق التطلعات العادلة والمشروعة لنا جميعاً..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة