التنمية والعسكرة ضدان لا يلتقيان

حقيقة لا يتناطح عليها كبشان، وفي تأريخنا الحديث غير القليل من التجارب التي أكدتها، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، وما شهدناه من نهوض وتحولات جذرية عاشتها البلدان التي خسرت تلك الحرب، وتمكنت لاحقاً عبر التخلص من وباء عسكرة الدولة والمجتمع، لتلوذ بسبل التنمية المجربة في شتى الحقول المادية والقيمية، وهذا ما برز بوضوح تام في تجربتي ألمانيا واليابان، اللتان عرفتا أكثر نسخ العسكرة وحشية وفتكاً بين الأمم في التأريخ الحديث. لقد ودعت البلدان التي عاشت مثل تلك المحن القاسية، كل ما يتعلق بالرصاص والبارود والخنادق النتنة وماراثونات التسلح، ومتعلقاتها من العقائد والتشريعات والخطابات المتخصصة بكراهية الآخر المختلف وشيطنته وتبرير أبشع الجرائم والانتهاكات في الطريق الى ذلك. صحيح أن غالبية التحولات هذه قد تمت تحت ضغط العامل الخارجي (القوى المنتصرة) والتي فرضت برنامجاً شاملاً لنزع السلاح وتجفيف كل منابع العسكرة عند الطرف الآخر، إلا أن حيوية مجتمعاتها قد حولت تلك الهزائم الى معبر صوب الأمن والاستقرار والازدهار.
عندما نقارن بين تلك التجارب العالمية وتجربتنا المحلية في مجال العسكرة، نجد أننا قد قطعنا مشواراً أطول وكلفتنا فواتير أثقل مما حصل مع التجارب الأخرى، لا سيما بعد ولوجنا الى نفق لا يقل عتمة عما جرى قبل “التغيير”. كنا بأمس الحاجة الى برنامج شامل لإعادة انتشال وطننا من بين الأنقاض التي خلفتها أربعة عقود من أبشع تجربة توليتارية عرفها تأريخ المنطقة الحديث، عبر مشاريع للتنمية وإعادة بناء مؤسساته الاقتصادية والسياسية والمعرفية، غير أن طرفي الحرائق الجديدة (فلول النظام المباد بواجهاته المتعددة من جهة وشراهة وضيق أفق الطبقة السياسية التي تلقفت زمام الأمور بعد “التغيير”) كان لهما رأي مغاير تماماً لكل ما يمت بصلة لتلك التطلعات المشروعة في العيش كبقية الأمم التي أكرمتها الأقدار بالأمن والسلام المجتمعي وبالتالي الاستقرار والازدهار. لقد أصبح الحال وبعد أكثر من أربعة عشر عاماً مما يفترض أنه مرحلة للعدالة الانتقالية صوب البناء الديمقراطي والسلمي؛ أكثر تعقيداً بعد سلسلة الفصول الإجرامية والإرهابية التي نفذت خلف سيل مكثف من خطابات “الهويات القاتلة” وصرنا أكثر بعداً عما كنا نهدده في مخيلاتنا عشية زوال الدكتاتورية، حيث عمقت بسمومها وثاراتها الصدئة، من أسس التشرذم الطائفي والإثني الموجودة أصلاً.
علينا الكف عن اقتفاء أثر النعامة في مواجهة ما يواجهنا من تحديات، والاعتراف بحقيقة فشلنا جميعاً في النهوض بمهمات المرحلة الانتقالية، وانجرافنا بعيداً عن روحها أي (التنمية والاستقرار) الى ضدها النوعي (العسكرة) وما رافقها من كوارث ومحن تعدّ انتصاراً لقوى الردة والفساد والإرهاب. كما أهدرنا فرصة امتلاك زمام الأمور ووضع قواعد اللعبة لصالح تجار ومشعلي الحرائق والحروب، علينا استرداد المبادرة عبر توجهات وقرارات مسؤولة وشجاعة تكبح من جماح عسكرة الدولة والمجتمع، لصالح معركة أخرى لا وجود فيها للرصاص والمتاريس العفنة والثكنات وقيمها، معركة نطمر فيها متاريس التشرذم والخراب، وتتيح لشعوب هذا الوطن القديم تقديم أفضل ما لديهم من خصال وقيم تتناغم ومتطلبات مرحلة التنمية والسلام..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة